يتحدث مسؤولون أمريكيون منذ سنوات عما أسموها الفوضى (الخلاقة) وعن إعادة رسم خارطة المنطقة، تحت إسم (الشرق الأوسط الجديد). وتمثل الفوضى الخلاقة في هذا السياق مرحلة تمهيدية،
تهدف إلى تهيئة الأوضاع في الوطن العربي لتقبل الخارطة الجديدة، أو بتعبير أدق، التقسيم الجديد، بعد أن أضحى تقسيم سايكس ـ بيكو تقسيماً غير كافٍ لتوفير الطمأنينة لمصالح الغرب الإستعماري وللوجود الصهيوني في فلسطين. ومن شأن التقسيم الجديد، إذا مانجحت الفوضى الخلاقة في إنضاج شروطه، من شأنه أن يضع حداً لطموحات الشعب العربي في امتلاك قراره السياسي ومصادر ثرواته وبناء قاعدته الإقتصادية القوية وإنجاز نهضة تعليمية وثقافية، ذات طابع وحدوي، وصولاً إلى تحقيق الحلم العربي، المتمثل بقيام دولة عربية واحدة قوية، مستقلة بقرارها السياسي والإقتصادي، متحكمة بثرواتها. وهذا مايخشاه الغرب على وجه التحديد. فقيام دولة عربية واحدة في منطقة بالغة الأهمية، كهذه المنطقة، ذات الإمتداد الواسع والكثافة السكانية والثروات المتنوعة، وعلى رأسها مصادر الطاقة المحركة لاقتصاد العالم، وبما تختزنه هذه المنطقة من موروث حضاري مؤثر في تكوين الإنسان العربي وفي تحديد خياراته، سيشكل من وجهة نظر الغرب خطراً لايهدد نفوذ الغرب السياسي والإقتصادي في الوطن العربي وفي العالم فحسب، بل سيهدد نمط حياته ومستوى رخائه.
ومن رحم التوجس والخوف ولدت فكرة الفوضى (الخلاقة)، المتمثلة بالحروب الأهلية والإنفلات الأمني والتشرد وتعميم الفقر والمجاعة وانعدام الرؤية السياسية لدى الأنظمة الحاكمة ولدى قيادات الأحزاب السياسية والنخب الثقافية، وصولاً إنضاج عملية الإصطفافات العرقية والدينية والطائفية، عبر التحريض الإعلامي الموجَّه والنزوح الجماعي من مناطق الإختلاط السكاني إلى مناطق ذات هوية طائفية ـ عرقية واحدة. ليأتي التقسيم الجديد مطابقاً للواقع الجديد، الذي خلقته هذه الفوضى المخطط لها بعناية. و بذلك يتشكل الشرق الأوسط الجديد، الذي سيضم كيانات عربية هزيلة إلى جانب كيانات قوية غير عربية، منها الكيان الصهيوني، ويتبدد فيه الحلم الوحدوي العربي ويهال التراب على أهم مقومات الأمة، وعلى رأسها وحدة الشعب والأرض والثقافة والتاريخ، ووحدة اللغة، التي شهدت تخريباً واضحاً منذ عقود من الزمن، أعطى ثماره السامة، ضعفاً مشهوداً في المهارات اللغوية، لدى المثقفين والإعلاميين وأساتذة المدارس والجامعات، ورطانة صادمة لكل محب للغته العربية الجميلة، شغوف بها مدرك لأهميتها في المحافظة على هوية الأمة ووحدتها.
ولأن الفوضى الخلاقة لاتحدث تلقائياً، فلابد إذاً من تصنيعها. وقد تكفلت بعملية التصنيع أجهزة غربية متعددة. منها أجهزة استخبارات ومؤسسات تمويل ومراكز بحوث متخصصة ووسائل إعلام ومعاهد إعداد للعناصر المجنَّدة أمنياً، تزودهم بالمعارف والمهارات اللازمة، للقيام بأدوارهم المحددة في تفجير الفوضى وقيادتها وإدامتها، حتى تنجز أهدافها. وقد يلزم في حالات معينة التدخل العسكري المباشر، لإعطاء إشارة البدء بهذه الفوضى، كما حدث في العراق مثلاً. وفي معظم الحالات يكون التدخل خفي وغير مباشر، كما حدث في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، إعتماداً على بعض القوى السياسية المؤثرة، المرتبطة عضوياً بالمشروع الغربي، وعلى العناصر المجنَّدة، التي سبق إعدادها.
هذه صورة إجمالية للفوضى الخلاقة ودوافعها وأهدافها، نستنتجها مما أُعلن على لسان بعض كبار السياسيين الأمريكيين، ومما تسرب من معلومات متناثرة، ومما يفصح عنه الواقع الحالي في الوطن العربي، بصراعاته العسكرية ومليشياته المتقاتلة واصطفافاته الإجتماعية، العرقية والمذهبية، التي يُنشِّطها الغرب الإستعماري ويرعاها رعاية لم تعد مخفية. وهي صورة إجمالية لاتغني عن التفاصيل. لكن الخوض في التفاصيل الآن أمر متعذر. لأنه يتطلب توفر المعلومة الدقيقة من مصادرها الأصلية. أي يتطلب قراءة الوثائق الدبلوماسية والإستخباراتية في أرشيفات الغرب نفسه. وهذا النوع من الوثائق سيبقى، كما هو معروف، طي الكتمان والسرية ثلاثين عاماً على الأقل. وقد تتسرب بعض العناوين المجتزأة. ولكنها ستبقى مجرد عناوين، لا تسعف الباحث الرصين ولا تسمح إلا بوضع اجتهادات وتخمينات واستنتاجات، مبنية على التحليل والربط المنطقي، أكثر مما هي مبنية على المعلومة الأكيدة.
ومع ذلك يمكننا أن نرى ونلمس، بل ونعيش فصول هذه المؤامرة، الماثلة أمامنا على صورة فوضى تعبث بالوطن العربي كله وتسعى، عبر حروب أهلية طاحنة، إلى تفتيت نسيجه الإجتماعي المتجانس وإحداث اصطفافات طائفية وعرقية، تنتهي إلى إقامة دويلات صغيرة هزيلة، يسهل التحكم بها وتسخيرها لخدمة مصالح الغرب، على حساب مصالح شعوبها. وعلى هذا النحو يُقبر حلم الوحدة العربية إلى الأبد، وينتهي أي احتمال لنشوء دولة عربية قوية تتحكم بثرواتها وتمتلك قرارها السياسي المستقل وتتعايش مع العالم، تعايش الأنداد.
لقد دُمِّر العراق بذرائع كاذبه، يخجل منها الإنسان العادي، ولكن السياسيين لايخجلون. وقبل العراق دُمِّرت فلسطين ثم الصومال. وبعد العراق دُمِّرت وماتزال تُدمَّر كل من السودان وليبيا وسوريا واليمن. وسيأتي الدور، وفق سيناريو الفوضى الخلاقة، التي يراد لها أن تشمل الوطن العربي كله، سيأتي الدور على بقية بلدان شمال أفريقيا وما تبقى من بلاد الشام (الأردن ولبنان). كما سيأتي الدور حتماً على بلدان النفط الثرية في شبه الجزيرة العربية، التي أحسن الغرب استخدام حكوماتها كأدوات فعالة في تسعير نيران الفوضى الخلاقة وتمويلها. وعندما تكتشف حكومات هذه البلدان أن الثور الأسود أُكل عندما أُكل الثور الأبيض، سيكون هذا الإكتشاف متأخراً وغير مجدي.
ولكن السؤال، الذي يمكن أن يُطرح هنا هو: هل ما يخطط له الغرب الإستعماري قدرٌ لا فكاك منه، أم أن حسابات الحقل يمكن أن تكذِّب حساب البيدر؟ الجواب بطبيعة الحال يتوقف علينا نحن. فنحن المسؤولين بالدرجة الأولى عما يصيبنا. ولايعني هذا أننا نكابر وننكر وجود المؤامرة، كما يفعل بعض المثقفين العرب. لكننا ندرك أن الغرب يُلحق بنا الأذى ويتآمر علينا حماية لمصالحه. وهذا أمر طبيعي. أما نحن فنقتتل فيما بيننا ونبتلع مايضخه الإعلام الغربي والإعلام المرتبط به من سموم طائفية وعرقية، تهيئنا لتمزيق أنفسنا وتبديد قوانا والتضحية بمصالحنا وتدمير حاضرنا ومستقبلنا. ولا نسأل أنفسنا لمصلحة من نفعل هذا كله؟ ولو أننا استطعنا أن نطور وعينا وندرك مصالحنا العليا الجامعة ونتشبث بها، ونرتقي إلى مستوى التحدي، فنحشد قوانا ونرص صفوفنا ونوحد أنفسنا ونؤجل خلافاتنا الصغيرة التافهة ونتمسك بهدف كبير أسمى وأعز، وهو حماية وطننا وأمتنا والمحافظة على وحدة شعبنا ونسيجه الإجتماعي المتآلف والدفاع عن مصالحنا الوطنية وعن مستقبل أجيالنا القادمة، لضمنا النصر في هذه المعركة، التي تستهدف وجودنا كأمة، وأحبطنا مخططات الغرب الإستعماري، وحينئذٍ سيكذِّب حساب البيدر حسابات الحقل المسبقة، دون شك.
وقد ننطلق من السؤال السابق إلى سؤال آخر أكثر اتصالاً بعنوان المقال: هل ستصيب أضرار الفوضى الخلاقة شعبنا العربي وحده، أم أن شظاياها ستلحق الأذى بصانعيها أنفسهم، أي بالغرب الإستعماري ومجمَّعاته الصناعية وبنوكه وبورصاته المتحكمة بالعالم؟ أظن أن الجواب على هذا السؤال أصبح واضحاً إلى حد كبير. فقد صاحبت هذا التدمير، الذي حققه الغرب في الوطن العربي آثار جانبية مست الغرب نفسه. ويمكن رؤية بعض هذه الآثار الجانبية في الأزمات الإقتصادية والمالية المتتالية، التي عانت وتعاني منها بعض الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية. فقد قرأنا وشاهدنا، منذ وقت ليس ببعيد، الآثار السلبية على الإقتصاد الأمريكي، من جراء العدوان على العراق، حيث تحدث الإعلام العالمي عما تكبده الإقتصاد الأمريكي من خسائر فادحة، أثرت على ميزانه التجاري وأسواقه المالية ومصارفه ومجمعاته الصناعية، وأجبرت الحكومة الأمريكية على اتخاذ تدابير، تمثلت بتدخل الدولة المباشر في توجيه الإقتصاد. فبسطت هيمنتها ورقابتها على البنوك والأسواق المالية وعلى الحركة الإقتصادية بمجملها، لإنقاذ الإقتصاد الأمريكي من الإنهيار العام. وهي إجراءات طالما رأى فيها منظرو الرأسمالية الغربية وأرباب الصناعة والتجارة والمال، طالما رأوا فيها إجراءات إشتراكية شيطانية، لايطيقون مجرد التفكير بها. ولكنهم أُجبروا على اللجوء إليها مرغمين.
ولم تمس الآثار الجانبية للفوضى الخلاقة في الوطن العربي إقتصاد الغرب فحسب، بل مست وضعه الأمني، كما أحدثت نزوحاً بشرياً هائلاً من مناطق الفوضى الخلاقة، التي أحدثها الغرب، إلى قلب البلدان الغربية، بكل ما يترتب على هذا النزوح من آثار سلبية، تتجاوز الحياة الإقتصادية والأوضاع الأمنية، إلى البنية الثقافية الغربية، التي أصبحت مهددة بغزو ثقافي غير مسبوق، وبحضور قوي لتقاليد وعادات وطرائق في التفكير والسلوك غريبة عما ألفه الغرب، سينتج عنها حالة من التوتر الإجتماعي والصدام الثقافي، تمهد لانهيار الحضارة الأوربية الحديثة أو تهجينها. وهذا يفسر لنا ما يحدث في الشارع الأوربي وفي الأوساط السياسية والثقافية الغربية من ردود أفعال حادة، تجاه هذا النزوح الجماعي، ومن حراك سياسي واجتماعي، ينذر بحدوث فوضى خلاقة من نوع آخر، ستُحدث تغييرات عميقة في أوربا المعاصرة، قد لاتقل خطورة عما تحدثه الفوضى الخلاقة، التي صنَّعها الغرب الإستعماري وصدَّرها إلى وطننا العربي. فالفوضى الخلاقة، التي فُرضت علينا ودمَّرت حياتنا، سلاح ذو حدين، سيفتك في نهاية الأمر بصانعه نفسه. ولنتذكر وحش فرانكنشتاين الخيالي، الذي كان صانعه فخوراً بما صنع. لكنه في نهاية الأمر عجز عن التحكم به أو حتى حماية نفسه منه، وانتهت حياته على يديه. ومن عاش سيرى.