"في قلب صنعاء.."
من كتاب "في ظلال بلقيس"
ريم عبد الغني
أذان الظهر في صنعاء، أُصغي باهتمام.. أحاول تبيّن آذان دمشق فيه.. ليس انحيازاً لدمشق, فأنا عاشقة لليمن بامتياز.. لكنّ أذان المساجد التي أعرفها هناك تحفظ غيباً طريقها إلى روحي.. منذ وُلدت.. أصواتهم الشجيّة تخرج من أعماق قلوبهم.. ويتراءى لي أحياناً مسارها نحو السماء...
دمشق أو صنعاء أو في أيّ مكان على وجه الأرض.. ذكر الله يريح القلوب كيفما كان وأينما كان.
الأذان يشير إلى وقت صلاة الظُهر.. وها نحن في طريقنا إلى المسجد الكبير.. هل يُعقل أن نزور صنعاء القديمة دون المرور بقلبها؟!..
وقلبها الحقيقيّ هو مسجدها الكبير الذي شكّل إنشاؤه في العام السادس للهجرة حجر الزاوية في البنية الماديّة والروحيّة والفكريّة لمدينة صنعاء القديمة، وقامتْ على منواله فيما بعد مساجد عديدة أحصاها القاضي الحجري في كتابه "مساجد صنعاء" فبلغت المئة.
كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد أمر الصحابي "فروة بن مسيك" أن يُقيم مسجداً في بستان الحاكم الفارسيّ "باذان بن ساسان"، وكان المكان معموراً ببقايا منشآت سابقة كقصر "غُمدان"، الذي يُعتقد أنّ منه قد أُحضرت حجارة المسجد الكبير, وكذلك بعض أبوابه الفولاذيّة الاثني عشر، وفوق أحدها ما زالتْ هناك كتابة بخطّ المسند لأبيات شعر تشير إلى القصر:
يسمو إلى كبد السماء مصُعّداً عشرين سقفاً سمكها لا يقصرُ
وقبالة الباب الأوّل والثاني من أبواب الجامع الشرقيّة، مازالت هناك قطعة حجريّة ضخمة مداميكها ملتحمة بالمعدن المُذاب يُعتقد كذلك أنّها من بقايا "غُمدان".
في ذات مكان إنشاء الجامع –كما يُعتقد أيضاً- كانت هناك كاتدرائية "القليص" الضخمة التي بناها "أبرهة الحبشي" على هدي كنيسة الميلاد في بيت لحم، ليُنقل إليها الحجر الأسود وتكون بديلاً للكعبة الشريفة في مكّة المكرّمة، لكن الطيور المحمّلة "بحجارة من سجّيل" (ويُقال أيضاً الجدري) فتكتْ بجنده فهُزم قبل أن يهدم الكعبة (وكان ذلك في عام570م).
نجتاز صحن المسجد، تحيط به الأروقة وتحرسه مئذنتان من الشرق والغرب، في الداخل أعمال فنيّة رائعة، خاصّة الزخارف المتنوّعة التي تغطّي "مصندقات" سقوف الحرم.. متحف حيّ يعكس روح العصور المتعاقبة على المدينة، إذ كان يُهدى له دائماً أفضل ما يُنتجه الرسّامون والرقّاشون والخطّاطون.
أمام واحد من أقدم محاريب الإسلام صلّينا الظهر وابتهلنا بالدعاء.. أغمضت عيني أحاول رؤيتهم واحداً واحداً.. أهلي وأحبابي.. لأدعو لهم جميعاً بما أحب ويحبّون.. إذ يُقال إن الدعاء مستجاب في هذا المسجد وأنّ "في قسمه الخلفي روضة من رياض الجنّة".
تربّعتُ على السجّاد النظيف، أسندت ظهري إلى أحد الأعمدة الاسطوانيّة البيض، وجلتُ ببصري في أرجاء قاعة الصلاة الواسعة.. أتنهّد بارتياح وقد تسرّب إلى روحي ما في المكان من تراكم طاقة المحبّة والصدق.. في هذه المساجد القديمة "شيء روحانيّ" لا يمكن اختراعه أو تقليده.. يكمن في أدقّ تفاصيلها.. يحررنا من الجاذبيّة الأرضيّة ويصلنا حقّاً بالسماء.. يغمرنا بالسكينة.. آخذ نفساً عميقاً.. كأنّي أحاول اختزان بعض هذا "الشيء" بين ضلوعي...
عشرات المصلّين وحلقات علماء .. يُكثرون الاعتكاف في المسجد الوحيد القائم من المساجد التي أُنشئت في عهد الرسول في اليمن، وذلك يفسّر مكانته المميّزة, وأنّه مازال مركز صنعاء الأساسيّ لنشر وتعليم القرآن الكريم منذ أكثر من ألف وأربعمئة عام، فالجامع الكبير في صنعاء لم يكُ مكاناً روحانيّاً للصلاة فحسب، بل مركز إشعاع علميّ هام أيضاً على مدى قرون.. وفي عهد الإمام يحيى حميد الدين عام 1936م/1335هـ بُنيت مكتبته التي ضمّتْ مجموعة هامّة من المخطوطات الإسلاميّة، وإلى جانبه أُنشئت دار حديثة للمخطوطات... وبالمناسبة فقد عُثر في إحدى سقائفه على ثروة هائلة مخبّأة من القصاصات القرآنيّة –تعتبر من أقدم النسخ القرآنية التي عُثر عليها حتّى الآن- وكذلك ثلاثة آلاف مخطوطة فريدة مُحتفظة برونقها وحالتها الجيّدة رغم أن بعضها يعود إلى القرون الأولى للهجرة.
قلتُ لفوزيّة بدهشة: "القرون الأولى للهجرة؟ أوراق محفوظة منذ أكثر من ألف سنة؟ مذهل.. فقلة قليلة -لستُ منها- تحتفظ بأوراقها الشخصية التي تعود حتى لعشرين سنة خلت".. ثم أردفتُ مشيرة بيديّ إلى التكوين المعماريّ للمسجد حولنا والذي يُقال إنّه ينطبق تقريباً على نفسه بعد توسعته وتجديده زمن الوليد ابن عبد الملك قبل ألف وثلاثمائة عام.. "ندرة تبقى على حالها في عالم تتغير ملامحه ومعطياته كل ثانية"...
نغادر المسجد.. ويلفح حرّ الظهيرة وجوهنا.
"مرطّب يُطفئ العطش.. طروح.. طروح"، يتعالى صوت البائع الصنعانيّ بلهجته المميزة ..
فرحتُ بندائه؛ لأنّ القيظ كان قد أشعل ظمئي .. لا بدّ أنّها هديّة السماء لخير ما فعلتُه ذات يوم..
أتعلّق بذراع فوزيّة كطفلة: "أنا عطشى.. ما هو "الطروح"؟ عصير؟"
تضحك فوزيّة عالياً وهي تجرّني باتجاه العربة الخشبيّة.. أُفاجأ فوقها بما يشبه الخيار الكبير.
-" "الطروح" أو "القثاء" نبات يُزرع منذ القديم في اليمن، يُحكى الكثير عن فوائده للسكّري والهضم وخفض الحرارة ونعومة الجلد والصداع وإدرار البول، وهو فعّال كدواء للحصى و..."
أقاطع محاضرتها الطبيّة بغيظ: "لا يعنيني هذا كلّه الآن يا فوزيّة... أنا عطشى حقّاً ".
أخيراً... أتلقّف زجاجة الماء الباردة، أرفعها إلى شفتيّ، أتجرّعها بتوق شديد.. أفهم في مثل هذه اللحظات أن يكون الماء وليس النفط الهدف المتوقع لحروب العالم القادمة.
التقلّصات في معدتي.. هل هو الماء المثلّج؟ لا.. لقد بدأ الجوع يفعل فعله.. فالسير في أزقّة صنعاء القديمة لساعات أمتعني لدرجة نسيان أنّني لم أتناول شيئاً منذ الصباح.. وبما أنّه "لا رأي لجائع"... فقد أنذرتُ فوزيّة أنّي مستنكفة عن أيّ عمل أو حوار قبل تناول الغداء.
الإصرار بوّابة المعجزات.. فبعد نصف ساعة وجدتني وفوزيّة نتناول الغداء في مطعم "الشيباني"...
و"الشيباني" سلسلة مطاعم معروفة في صنعاء مختصّة بالوجبات الشعبيّة، ومن أطيبها خبز "الرشوش" وخبز "الرطب"، وكلاهما يُقدّم فوق طبق القشّ المدوّر ساخناً برائحته الشهيّة، أفضّلهما كثيراً على خبز الكدم، الذي لا تخلو منه يدّ فوزيّة، ولا تكفّ عن قضمه بحجّة أنّه خليط مغذٍّ من الحبوب.
كنتُ قد قررتُ سلفاً ما سأطلبه من طعام، وبثقةٍ بادرتُ الشاب الأسمر الذي وقف يتلقّى طلباتنا:
-"طبق سلتة لو سمحتْ"...
خيّب أملي أنّ الشيباني لا يُقدّم "السلتة"، كيف وهي منْ أكثر الوجبات الشعبيّة المعروفة في معظم مناطق الهضبة اليمنيّة، والمطاعم المتخصصة بها هي من أكثرها ارتياداً في اليمن؟.
ثم أنّي كنتُ قد وعدتُ نفسي اليوم بتذوّق "السلتة" التي طالما ارتبطت في ذهني بصنعاء، حتى أنني حرصتُ هذا الصباح أن أشتري "الحرضة" من سوق الملح، الوعاء الذي يطبخون به "السلتة"، قطعة من حجر الحرض المائل للسواد الحافظ للحرارة، تُنحت على شكل وعاء يُشبه الأواني الفخّارية... وبعد تركها فارغة فترة على النار، تُصبُّ فيها مكوّنات "السلتة" لتُطهى بالحرارة المُختَزنة في الحجر ببطء، الزيت المغليّ مع خليط الطماطم والصلصة والبصل، فوق الحلبة البيضاء مع المرق الساخن (ماء اللحم)، إضافة إلى ما تبقّى من محتويات المائدة من رز وبطاطس وبامية وغيرها، تُخلط جميعها مع شيء من الفلفل الحارّ، (يضاف لها أحياناً اللحم المفروم لتُدعى في هذه الحالة "الفحسة").
تنوّع هذا الخليط قد يُفسّر اعتقاد البعض بأن تسمية "سلتة" قد تكون تصحيفاً في النطق لكلمة "سلطَة"، ويقال إنّ اليمنيين لجؤوا إلى "السلتة" في فترة الإمامة نظراً لصعوبة ظروف المعيشة, ولأنّها تسهم في حمايتهم من البرد، و"السلتة" الساخنة تُقدّم غالباً كوجبة غداء.. لأنّها تُسهّل الهضم وتُغلّف المعدة وتمنح الطاقة، وبذلك تكون مناسبة كمقدّمة لمضغ القات بعدها.
حاصله.. يبدو أنني لنْ أتذوّق "السلتة" اليوم.. ولأنّي لم أفكّر بغيرها، تركتُ فوزيّة تملي عليه ما تشاء.. وانتظرتْ.
أخيراً.. أطباق الرز واللحم في الأواني التقليديّة الجذّابة .. رائحتها الشهيّة تُنسيني حسرة "السلتة".. طبق "البرعي" المطهو من البازيلاء المجففة.. والفول الحارّ في أوانيه الطينيّة المصنوعة من المدر.. أتتْ جميعاً في وقتها.
"بسم الله"... أشمّر عن ساعديّ وأغمس قطعة الخبز الطريّة وسط الصحن, أسوة بفوزيّة، مع اليمنيين كلّ الحق أنْ يتناولوا الطعام بأصابع اليدين.. فهذا الأكل المطهو بمحبّة خالصة وسط هذا المحيط الحقيقيّ في كلّ تفاصيله.. لا يمكن التواصل معه بوسائط معدنيّة ميّتة كالشوك والسكاكين.. هنا تُسقط الأقنعة والقّفازات وتتكلم نبضات القلب.
الأربعاء 29-10-2014