السبئي-بقلم -
عبد الرازق أحمد الشاعر:
ذات ثورة، حاول وفد من المعارضين الأمريكيين من أصول أيرلندية الالتقاء بالرئيس ودرو ولسون لمناقشة بعض الأمور الخلافية، لكن الرجل رفض مقابلتهم بشكل قاطع، وأمر بردهم على أعقابهم أذلة مغبونين. كان ولسون يعلم جيدا أنهم رسل غريمه كالاهان وأن الماكر يجلس هناك فوق طاولته المستديرة بين أتباعه المتمردين في انتظار هفوة هنا أو سقطة هناك يجري تضخيمها للنيل من كرسيه الوثير.
حاولت سكرتيرة الرئيس أن تثنيه عن عزمه لأنها تعلم جيدا أن العبث مع كالاهان كالركوب فوق ظهر دب قطبي لأنه قادر على استغلال الحدث أبشع استغلال، فهو رجل كثير الأتباع قوي الحجة، يمكنه أن يحرك المليونيات نحو أي قصر بإشارة من بنصره. قالت المرأة: "فكر سيدي الرئيس في ردة فعل أتباعه." فأجابها الرجل واثقا: "فقط أفكر في ردة فعل المواطن البسيط."
الحشد إذن هو الغاية، والاستقواء بالأعداد هو البديل الشرعي للحوار، والمواطن البسيط هو الهدف. أما الوطن والمصلحة العليا للبلاد، فهي ديباجة يمكن للجميع استخدامها في كافة الحوارات ومن قبل كافة الأطراف المتنافرة وفي كافة المناسبات. لا حاجة بولسون للاستماع إلى الوفد المعارض لأنه يعلم يقينا أن الحوار شرك وأن الغريم من صانعي الفخاخ. وليس من الحكمة أبدا أن يضحي الرجل بمزرعة من الدجاج الداجن ليركض خلف بضع دجاجات ناشزة. وإن كان المعارضون يستقوون بأعدادهم، فبإمكان الزعيم المفدى أن يحشد ملايين الرؤوس خلفه بجرة قلم أو هزة رأس. مليونية بمليونية إذن، وعلى المعارضين تدور الدوائر.
أيها المصريون البسطاء، عليكم أن تختاروا اليوم فسطاطا يواري سوءاتكم، فلم تعد مصر التي ألفتموها خيمة واحدة، ولم يعد المدافعون عن تصويتكم ملة واحدة. عليكم أن تستغلوا أعدادكم أسوأ استغلال كما يستغلها المتنافسون على حناجركم. لا تنحازوا إلى فريق إلا بعد أن يوقع لكم قادته على وثيقة تحفظ ماء وجوهكم وما تبقى فوق أجسادكم الضامرة من أوراق توت.
لا تصدقوا المراهنين على طيبتكم هنا أو هناك، لأن عيون المتصارعين على عرش مصر لا تكاد تراكم إلا أرقاما في سجلاتهم البائسة. لا تصدقوا مليونية هنا أو مليونية هناك، ولا تشاركوا في إثم التفتيت وتوزيع الأدوار في صفقات تتعامل مع قلوبكم المخلصة كما تتعامل مع أعقاب السجائر ولا تعترف بجلودكم إلا بعد أن تغمسوا أناملكم في أحبارها.
أفيقوا أيها المراهنون على اليمين أو اليسار، فبلادنا اليوم لم تعد تعرف يمينها من شمالها بعد أن فقدت المخلصين على الجانبين. لا تسمحوا لثلة من المتاجرين بأحلامكم أن ينتصروا على الأمل الرابض في قلوبكم منذ الميلاد، ولا تثقوا إلا برؤوسكم في زمن صار المنطق تابعا والدين مطية. ولا تفرحوا إن سقط زيد أو نهض عمرو، لأن القادمين فوق عظامكم يحتقرون سواعدكم، ولا يأبهون إلا لحلوقكم حتى حين.
إن كان من حق كالاهان أن يمكر، ومن حق ولسون أن يحتاط، فمن حق التائهين عن مشاريعهم وسط الميادين في برد الشتاء أن يصمتوا وأن يمتنعوا عن دعم مشاريع التقسيم والتقزيم الجارية على قدم وساق في مستنقع آسن تسكنه التماسيح الجائعة. من حق المصريين البسطاء أن يكونوا جزءا من معادلة وسطية تأبى الانحراف أو الانجراف مع أي تيار ليكون البسطاء شهداء على الناس بدلا من أن يكونوا شهود زور في محكمة التاريخ.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات