العميد د. أمين محمد حطيط
بعد المتغيّرات العسكرية والاستراتيجية التي طالت قدرات القوى المتصارعة في المنطقة، وخاصة تلك القوى المواجهة للعدو «الإسرائيلي»، وامتلاك هذه القوى وفي طليعتها المقاومة الإسلامية التي ينظمها ويقودها حزب الله، بعد هذه المتغيّرات تحوّلت «إسرائيل» من استراتيجية هجومية مطلقة إلى استراتيجية عسكرية مركبة من هجوم ودفاع، وباتت الاستراتيجية الدفاعية ركناً أساسياً من الاستراتيجية العسكرية «الإسرائيلية»، ما فرض على «إسرائيل» إعداد ذاتها لمقتضيات هذا النمط من القتال والذي عليها فيه أن تقوم بما يستلزم الدفاع متحركاً او ثابتاً يفرض إقامة خطوط دفاع ثابتة تقاتل عليها.
وهذا يترجم أو يعني أو يفسّر ما تقوم به «إسرائيل» الآن من التحصينات والتهيئة الأرضية الملائمة لهذا القتال الدفاعي الذي فرض على «إسرائيل» بعد أن طرق سمعها بقوة كلام السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله وقائد المقاومة، قوله بأنّ «على المقاومين أن ينتظروا لحظة تصدر فيها قيادة المقاومة الأوامر والتوجيهات للانتقال إلى الجليل والقتال لتحرير الأرض الفلسطينية المحتلة». ولأن «إسرائيل» تأخذ كلام السيد على أقصى محمل الجدّ، لأنها اعتادت معه على صدقه في الوعد والقول، ولأنه لا ينطق عن غير تحضير أو غير استعداد أو غير قدرة على التنفيذ، فهو لا يهوّل مع أنه يتقن وباحتراف عالٍ الحرب النفسية، بل هو يقول ويتوعّد بما يستطيع فعله ويمتنع عن التهديد بما هو ليس بقادر عليه. لكلّ ذلك وبسبب هذا المتغيّر باتت خطوط الدفاع الثابتة حاجة «إسرائيلية» وباتت الجدران وحقول الألغام والتحصينات ضرورة عسكرية «إسرائيلية».
وانطلاقاً من ذلك، بادرت «إسرائيل» إلى إقامة جدار حاجز على الحدود الجنوبية تظنّ أنه سيشكل عائقاً أمام عمليات التسلل والاندفاع التي قد تقوم بها المقاومة انطلاقاً من لبنان باتجاه الجليل في فلسطين المحتلة، وفي سعيها هذا يبدو أنّ «إسرائيل» تستند إلى مصالحها الدفاعية المدّعاة ولا تقيم وزناً للحدود الدولية بين لبنان وفلسطين المحتلة والمكرّسة باتفاقية «بوليه نيوكومب» والمؤكد عليها باتفاقية الهدنة 1949 والمتمسك بها في العام 2000، عام الاندحار «الإسرائيلي» من لبنان. وهنا يكون من المفيد أن نذكّر من يعنيه الشأن ويهمّه الأمر نذكّره بحقائق هامة تريد «إسرائيل» اليوم طمسها في معرض إقامتها للجدار العائق على الحدود وتريد فرض أمر واقع ميداني جغرافي معاكس للمصلحة اللبنانية ولسيادة لبنان على أرضه.
ففي العام 2000 وعندما كان لبنان بصدد التحقق من اندحار الجيش الإسرائيلي وخروجه من كامل الأرض اللبنانية، قامت الأمم المتحدة وتحت عنوان أداء واجبها بتسهيل عملية الانسحاب وتسليم الأرض محرّرة إلى لبنان، قامت بإعداد خريطة للخطّ الذي تنوي اعتماده للتحقق من الانسحاب، ولما عرضت خريطة الخط علينا وكنتُ يومها رئيساً للجنة العسكرية اللبنانية التي كلفت بالتحقق من الانسحاب «الإسرائيلي»، تبيّن لنا انّ الخريطة الدولية تعتمد خطاً يتعارض مع خط الحدود الدولية اللبنانية الفلسطينية في 13 منطقة، سمحت الأمم المتحدة لنفسها فيها باقتطاع أرض لبنانية لمنحها لـ»إسرائيل» من دون أيّ حق او سند قانوني او وثيقة صحيحة، ولما رفضنا المشروع الأممي وأظهرنا حقائق التاريخ والطبوغرافيا والجغرافيا والقانون الذي يحفظ لنا أرضنا تراجعت الأمم المتحدة عن مشروعها ووافقتنا في 10 مناطق لامست مساحتها 18 مليون م2، وبقيت نقاط ثلاث رفضت الأمم المتحدة الإقرار لنا بحقنا فيها ورفضنا نحن الموافقة على مشروعها وتقرّر إبقاء الوضع فيها على حاله خارج الوجود «الإسرائيلي» غير القائم فيها أصلاً باستثناء ممرّ المطلة وهي النقاط التي أسميت نقاط التحفّظ الثلاث وهي في رميش وعديسة والمطلة، ولا يوجد مطلقاً في جزء الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة نقاط خلاف وتحفّظ سواها.
لكن اليوم ومن المثير للاستغراب أن يُقال نقاط التحفظ الثلاث عشر، ففي هذا القول نسف لكلّ ما قام به لبنان في العام 2000 وجعل الحدود اللبنانية الدولية عرضة للتشكيك ومدعاة للتفاوض وكلّ ذلك ليس في مصلحة لبنان. وهو أمر مرفوض مطلقاً. والمرفوض أيضاّ أن تقدم «إسرائيل» كما هو حالها اليوم، أن تقدم على بناء جدار لا يحترم الحدود الدولية والخط الأزرق المتطابق معها إلا في نقاط التحفظ الثلاث. فـ»إسرائيل» تريد اليوم في تصرفها ببناء جدار الفصل أن تضع اليد على مناطق جغرافية لبنانية حاكمة تلزمها لمصالح الدفاع وأنّ الجدار الذي تقوم ببنائه اليوم ووفقاً لما تابعنا حتى الآن يحاول اقتطاع أرض لبنانية في المرتفعات من أجل أن تضع يدها على رؤوس التلال وفقاً لما جاءت به الأمم المتحدة في مشروعها الذي سقط أمام الإرادة اللبنانية في العام 2000. ثم تروّج بأنها نقاط نزاع أو نقاط خلاف خلافاً للحقيقة والواقع.
على ضوء ذلك نرى أنّ موقف الجيش اللبناني بمنع هذا العدوان وتوجيه الإنذار الصريح بالتوقف عن العدوان على الأرض اللبنانية هو موقف وطني واجب التأييد والالتفاف حوله، كما أنّ الحكومة اللبنانية مسؤولة عن القيام بواجباتها لجهة إبلاغ الأمم المتحدة، بدءاً من وجودها العسكري المتمثل بقوات اليونيفيل، وصولاً إلى مجلس الأمن الدولي الذي عليه أن يتخذ الموقف الذي يمنع «إسرائيل» من انتهاك الأرض اللبنانية والإطاحة بالحدود والخط الأزرق في الجنوب، وينبغي أن يعلم الجميع بأنّ إقدام «إسرائيل» على إقامة جدار على أرض لبنانية أو في مناطق متحفّظ عليها إنما هو عدوان سيواجه بالردّ المناسب الذي يؤدّي إلى وقف العدوان. وهنا لا بأس من أن يذكر هؤلاء بأنّ المقاومة التي حرّرت جاهزة وقادرة على منع العدوان عبر مؤازرتها للجيش في موقفه الواضح والصريح ومؤازرة الشعب لهما تمسكاً بثلاثية القوة اللبنانية «الشعب والجيش والمقاومة».
أستاذ جامعي وباحث استراتيجي