بقلم: د. محمود حمد سليمان
حدثني ابن هشام، فقال:
قبل أن أتركَ القبيلة وأندمجَ في رحاب الوطن كله.. كنت أنتقل مع شيخ قبيلتنا من ناحية إلى أخرى وفق الفصول وما فيها من خصب ومرعى لمواشينا الكثيرة والمتنوعة. ولنا في كل ناحية مضارب نعود إليها في كل فصل مُخصب..
ذات ربيع جئنا الى تلك المنطقة كالمعتاد.. لنجد أن مدير الناحية قد تغيَّر ومعظم ضباط الأمن.. وكالعادة، فإن شيخ القبيلة دعا الجميع إلى وليمة غداء بما في ذلك المسؤولون والمتنفذون وغيرهم.. وقد نحر لهم الخراف وجلب كل ما تشتهيه النفوس.. وجلس في بهو البيت ينتظر وصول الضيوف وحوله مصبات القهوة العربية الجاهزة.. وقد احتلت صدر الحائط صورة الزعيم الوطني، الذي كان قد رجل منذ عدة سنوات.. وهو القائد المعروف من القريب والبعيد، والقاصي والداني..
جلس مدير الناحية، وراح يحدِّق في الصورة وقد بان الشرر في عينيه.. ثم التفتَ صوب الشيخ قائلاً بسخرية: لمن هذه الصورة التي تزيِّنُ مجلسكَ..؟!
فأطرق الشيخ إلى الأرض.. ولم يجب على سؤاله.. ولكن المدير عاد وكرر السؤال.. لمن الصورة !؟ مَن هذا !؟
عندها رفع الشيخ رأسه وقال: إنها صورة راعٍ ٍ صالحٍ ٍ جاءنا يوماً.. فرعى لنا مواشينا خير رعاية.. أميناً صادقاً.. شجاعاً كريماً.. رعى أرزاقنا ومصالحنا دون ثمن ودون أن يطالبنا بأجر.. ومرت سنوات دون أن ندفع له أتعابه.. وقد صار له بذمتنا مبلغ كبير.. فقلنا: نطرده ونأتي بغيره ذلك أوفر لنا.. وأقل كلفة وخسارة.. وهكذا فعلنا..
وأضاف: بعد ذلك الراعي الصالح جرّبنا عدداً كبيراً من الرعاة لكنَّ واحداً منهم لم يفلح.. ولم يحفظ.. فكانت مواشينا عرضة للسلب والنهب.. وهجمات الذئاب والوحوش الضارية.. فأدركنا بشاعة فعلنا.. وشناعة طردنا لذلك الراعي..
ولأننا لم نعد نعثر عليه أو على مثيل له.. فقد احتفظتُ له بهذه الصورة لعلي أعرفه إذا عاد ولو بعد حين.. والإنسان كما تعلمون عرضة للنسيان..ولوساوس الشيطان..
قال ابن هشام: عندها هبَّ المديرُ واقفاَ.. وانصرف الجمْع.. والشيخ جالسٌ في مكانه لم ينهض ولم ينطق ببنت شفة..
وما هي إلا لحظات حتى أمر بتوزيع طعام الوليمة على أصحاب الحاجة والعوز.. وفقراء القوم وأيتامهم.. والأرامل..
عكار . لبنان