728x90 AdSpace

7 نوفمبر 2014

"نسختي" اليمنيّة... من كتاب "في ظلال بلقيس" ريم عبد الغني

من كتاب "في ظلال بلقيس"
ريم عبد الغني
"نسختي" اليمنيّة...
كان لدينا ساعة فقط لنرتاح في الفندق ونبدّل ثيابنا استعداداً لدعوة في المساء من قبل السيّدة الصنعانيّة الجليلة "أمّ أحمد"، وقد دعتنا إلى حفل "الشُكمة" الخاص بابنتها التي عادت لتوّها من شهر العسل. 

و"الشكمة" حفل تقيمه والدة العروس لابنتها في منزل والدها في اليوم الثالث بعد الزفاف أو بعد شهر العسل، وعادة تحضر العروس هذا الحفل -الذي يستمر من العصر حتّى وقت متأخر ليلاً- بثوب الزفاف الأبيض أو لباس احتفاليّ، متقلّدة التاج الصنعاني المذهب فوق رأسها. 
فكّرت طويلاً بما سألبسه، قبل أن أختار من خزانتي درعاً حريرياً فيروزيّ اللون، هديّة حملتها لي زينب-صديقتي العدنيّة اللطيفة- إلى دمشق قبل فترة، والدرع هو اللباس التقليديّ في عدن، ثوب فضفاض سهل الخياطة، أنثويّ وجميل ومريح خاصّة في جوّ عدن الحار، أنواعه الفاخرة مصدرها الهند أو الشرق الأقصى كأندونيسيا والصين، وقماشه عادةً رقيق للغاية (حرير أو شيفون)، ولأنّه غالباً ما يكون شفّافاً، لذلك تلبس المرأة تحته ثوباً طويلاً يغطّي بعض ما يكشفه الدرع من جسمها يدعونه "الشلحة"، وزينب تقول إنّ بعض النساء الميسورات يطرّزن أقمشة الدروع الحريريّة الخالصة بخيوط الذهب, ويُرسلنها أحياناً إلى الهند لتطريزها بما يُضفي عليها مسحة من الجمال والألق.
"إلى الهند؟ لماذا؟ ولماذا –أصلاً-يأتون بالنسيج من الخارج وقد كانوا يوماً ملوكه؟"، تساءلتُ وأنا أُدخل رأسي وذراعيّ داخل الدرع الرقيق... 
أين ذهب تاريخ النسيج اليمنيّ وأسواق المنسوجات المشهورة في صنعاء القديمة التي حدّثنا عنها القاضي حسين السياغي صاحب "قانون صنعاء في القرن الثاني عشر الهجري"؟، كسوق البزّ وسوق البزّ الحضرمي، البزّ الزبيدي، وكذلك البزّ اليريمي والوصابي، حيث كانتْ تُباع المنسوجات اليمنيّة المشهورة، مثل "الآدم" و"البرود" (من الكتان)، وكذلك "المقصبات" و"القصائب" و"المعلمات" و"المعصفرات" ،البيرم، السباعيّات، الملايا، شقق الحرير، الفوط، النقب(من القماش الأسود)، الشروب(يدخل في لحمتها خيوط الذهب).
وب"الوصايل" (وهي نوع من الأقمشة التي كانت تُنسج في اليمن قديماً وتُزخرف ارتجالاً باستخدام خيوط ملوّنة مصبوغة) كسا الملك اليمني "تبع كرب أسعد" الكعبة بعد أن كساها أوّل مرّة بالحصف(نسيج من خوص النخيل)، وكان قد رأى في منامه أنّه يكسو البيت الحرام, فكان أوّل منْ كسا الكعبة وأوصى بذلك بنيه من بعده، ثم.. ألا يكفي النسيج اليمني فخراً أن الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد كُفّن بسبعة أثواب يمانيّة سحوليّة؟.
على كلّ.. لبستُ الدرع الفيروزيّ الحريريّ، وفوقه العباءة السوداء بحسب تقاليد صنعاء، وغطّيتُ رأسي "بالمقرمة"(منديل لتغطية الرأس)، ألقيتُ نظرة أخيرة على نفسي في المرآة قبل أن أغادر الغرفة، أمتعني أنْ أتعرّف فيها على "نسختي اليمنية"، لا سيّما في عقد الفضّة والعقيق الصنعانيّ الذي ابتعته صباحاً من حسن في سوق الملح. 
في طريقنا من فندق "تاج سبأ" إلى بيت السيّدة أم أحمد نمر في شارع الحسن الهمداني ثمّ ميدان السبعين، الميدان الرئيس في صنعاء, تجاوره دار الرئاسة وفيه ساحة العروض الرئيسة، قبل أن نسلك شارع الستّين.
-" ميدان السبعين وطريق الستّين و.. ما هذا الولع اليمنيّ بالأرقام يا فوزيّة؟ ".
تضحك فوزيّة: "لكلّ اسم سبب.. شارع الستّين سُمّي كذلك لأنّ عرضه ستّين متراً، أمّا هذا الميدان فقد سُمّي بالسبعين نسبة إلى الحصار المعروف الذي ضربته فلول القوّات الملكيّة على الجمهوريين المتحصنين في العاصمة صنعاء، تجربة قاسية وأيّام عصيبة عاشتها صنعاء على مدى سبعين يوماً.
تدور بنا السيّارة حول الساحة فنمر قرب نصب الجنديّ المجهول وأميّز في تكوينه رقم 26، أُشاكس صاحبتي: "الأرقام اليمنيّة تلاحقني مجدداً"
تنبري فوزيّة للدفاع عن الأرقام اليمنيّة بقولها: "ألا تعرفين أن هذا تاريخ ثورة 26 سبتمبر 1962م/27-4-1382هـ؟، أمّا الأعمدة الستّة التي ترينها فهي تمثل بقايا عرش بلقيس وكذلك أهداف الثورة الستّة أيضاً".
أسأل: "وهل هي صدفة أن لجامع "الرئيس الصالح" الفخم المطلّ أيضاً على الميدان أيضاً ستّة مآذن صنعانيّة الطابع؟ّ.
والجامع بالمناسبة تحفة معماريّة صُممتِْ بحيث تُرى من أيّ مكان في صنعاء، بقبابها الثلاث والعشرين حول قبتها الرئيسة الكبرى، ربع مليون متر مربع من العمل الحرفيّ المُتقن، تشمل مبنى الجامع وكليّة علوم قرآن ودراسات إسلاميّة ومصلّى نساء، اجتهد مُصمموها أن تعكس التراث اليمنيّ الزاخر والطابع العمرانيّ اليمنيّ العريق، لاسيما في المنارات القرميديّة والواجهات الحجريّة ومواد البناء المستخدمة والأعمال الخشبيّة الفنيّة والتكوينات والزخارف الهندسيّة والقمريّات الجصّية المتعددة.
ولكي لا نشعر بطول الطريق، تابعتُ مداعبة "محامي الدفاع عن الأرقام اليمنيّة" صديقتي فوزيّة، بأن رويتُ لها قصّة طريفة –في ذات موضوع الأرقام- والقصّة روتها لي باحثة معماريّة فرنسيّة من عشّاق اليمن الكُثر، إذ كانت في زيارة لمسجد قديم قرب تعز، واستوقفتها قبّته المدببة، ثم وقعت عينها على الرجل الكهل الجالس على كرسي بجوار الباب، بدا لها جزء من المكان، كان يلفّ رأسه بعمامة, ويرتدي الزيّ اليمني، ويرمقها-كما أخبرتني- بين الحين والآخر بكثير من عدم الاكتراث. 
"ربّما كان موظفاً هنا".. فكّرت قبل أن يقودها فضولها العلميّ إلى أن تسأله.. "متى شُيّدت هذه القبّة يا عم؟"
دون أن يكلّف نفسه عناء النظر إليها.. أجاب بجديّة وثقة العارف: "منذ ستة ملايين عام".
فغرت الفاه عجباً, وشكّت أنها لم تسمع جيّداً فأعادت السؤال "منذ متى؟"
أجابها بلهجة من يجاهد ليضبط هدوءه ويكون مرناً: "منذ ستة آلاف عام".
غالبت الضحك هذه المرّة وهي تلحّ في معاودة السؤال"عفواً؟".
التفت إليها أخيراً, وقد طفح لديه الكيل وأثار "غباؤُها" حفيظتَه: "اسمعي، ستّمئة عام... وهذا آخر كلام لديّ".
بعد ذلك بفترة، وفي محاضرة ألقيتها على مدرج جامعة صنعاء حول عمارة حضرموت، سُئلت عن دقّة ما يُقال حول عدد مساجد مدينة تريم (الشائع أنّها 365 مسجد بعدد أيام السنة)، أحد الحضور -وهو صديق من أساتذة جامعة صنعاء- قاطع إجابتي العلميّة الجادّة ليشير مُمازحاً إلى قصّة تلك القبّة –وكانت صديقتي الفرنسية قد روتها له أيضاً- وانتهى بقوله: "لا تُتعبي نفسك بالتحليل والشرح.. اليمنيّون والأرقام قصّة يصعب تفسيرها."
نستقلّ إذاً شارع الستّين العريض، نمر قرب ناحية "فج عطّان" (عضدان)، فيُشير السائق إلى أحد البيوت الكبيرة يميناً: "هذه فيلا "نسيم حميد" الملاكم اليمني البريطاني المشهور.. هل تعرفينه؟"...
ارتاح أبو حكيم لإيمائي بالإيجاب.. فرغم مرور السنوات، لن ينسى اليمنيّون أبداً "البرنس" الذي رفع اسم اليمن عالياً في التسعينيّات بعد أن فاز في 11 مباراة عالميّة في الملاكمة في الجولة الثانية، وكان يصرّ في كلّ مبارياته على رفع علم اليمن إلى جانب العلم البريطاني مؤكّداً ارتباطه بوطنه الأصلي اليمن الذي كرّمه أيضاً.
وحتّى أنا التي لم أتخيّل قطْ أن أتابع يوماً مباريات هذه الرياضة العنيفة التي أمقتها، تابعتُ على التلفاز –أيّامها- "نسيم" الذي شغل الدنيا بحركاته البهلوانيّة الرشيقة الخفيفة الظل فوق الحلبة، والطريف أنّه كان لا يكتفي عادة بهزيمة خصومه جسديّاً، بل ونفسيّاً أيضاً من خلال كلماته الساخرة ورقصه متجنّباً لكمات خصمه. 
نقترب من وجهتنا... ندخل حيّ "حدّة" جنوب غرب المدينة، كان هذا الحي الحديث نسبيّاً بساتين حتّى بداية السبعينيّات، ثم بدأ كحيّ للدبلوماسيين والطبقة الثريّة قبل أن تغزوه المشاريع الاسكانيّة. 
نصل أخيراً منزل السيدة أم أحمد، فيلا فخمة تتوسط حديقة منظّمة تشي بذوق مرهف... 
ألتقط صورة لواجهة المنزل الساحرة، كما في معظم مباني صنعاء، يبهرني العمل اليدويّ المكثّف، زخارف بليغة, ولغة يغنّيها الحجر بمفردات يمنيّة.. لا أحد يُضاهي اليمنيين حين يتعلّق الأمر بالنقوش والحِرَف اليدويّة ولا سيّما أعمال الجص، وأحترم أن هذا الاهتمام بالجمال لا يتعارض أو يقلّ عن الحرص على تأدية الوظيفة، فجمال الزخارف في واجهات الأبنية اليمنية وتفرّدها قد استُخدم كلغة تعبير لا كعلامة ترف, كما ألفناها في باقي مناطق العالم، ولكثير من هذه النقوش والفتحات المختلفة المقاسات والأشكال وظيفة مهمّة يؤدّيها، كالتهوية أو التكييف أو الإضاءة أو حماية الخصوصيّة, بل وأحياناً الناحية الدفاعيّة، وحتّى اختيار طلاء الزخارف, وأطراف النوافذ بالكلس الأبيض (النورة) لم يكن لجماليّته فحسب، بل لطرد الحشرات وعكس بعض أشعّة الشمس الحارقة أيضاً.
"ليس فقط من خارج البناء بل وداخله أيضاً"... قلت لنفسي وأنا أخطو داخل البهو الأنيق، أتتبع بعيوني أعمال الجصّ البديعة على السقوف والجدران، واللوحات الملوّنة العملاقة. 
العمل المُتقن يسرق مني آهة إعجاب.. لاسيّما القمريّات العبقريّة الألوان أعلى الجدار... عبر الزجاج الملوّن لتلك الفتحات القوسيّة المجصصة أعلى النوافذ, تُبدع شمس الغروب لوحات فنيّة بديعة فوق أرضيّة البهو وجدرانه... فتعاودني بإلحاح فكرة أنّه كان من الإنصاف أنْ يدعوها: "شمسية" وليس "قمرية"، كم أحبّ إيقاعها المتكرر في التراث المعماري اليمني التقليدي، بأشكالها الزخرفيّة المتنوّعة التي تُجسّد خيال وموهبة صنّاعها.
نصعد الدرج المرمري الواسع... وعلى باب الصالون الكبير، أقف مبهورة أمام مشهد لم أره من قبل... 

  • تعليقات الموقع
  • تعليقات الفيس بوك
عذراً خاصية التعليقات مغلقة حالياً
Item Reviewed: "نسختي" اليمنيّة... من كتاب "في ظلال بلقيس" ريم عبد الغني Rating: 5 Reviewed By: وكالة السبئي للانباء-سـام
عذراً خاصية التعليقات مغلقة حالياً