728x90 AdSpace

19 يونيو 2014

"في ظلال بلقيس"من دمشق إلى صنعاء... لــ د.ريم عبد الغني

بقلم/ د.ريم عبد الغني-مقالات من كتابي"في ظلال بلقيس"من دمشق إلى صنعاء...
رغم العدد الكبير من رحلات الطيران التي قمتُ بها في حياتي، مازالتْ لحظات هبوط الطائرة.. تثير قلقي.

لكن قلقي يومها كان مُضاعفاً.. فالهبوط في مطار صنعاء المتواري بين ثنايا الجبال، بارتفاعها الذي يزيد على 2200م فوق سطح البحر، لايشبه الهبوط في المطارات الأخرى.

كان على الطيّار البارع أن يناور مخترقاً السحب السوداء.. وأن يواجه بثبات اهتزازات المطبّات الهوائية، قبل أن يهبط بنا على المدرج، مجتازاً ما يُعتبر اختبار ملاحة من الدرجة الممتازة. 
أخيراً على الأرض...
ثلاث ساعات ونصف تفصل دمشق عن صنعاء، المدينتين التوأمين والنقيضين.
فالمدينتان تتحدثان بمفردات معماريّة إسلاميّة، وتتباهيان بنفائس المساجد والحمّامات والخانات والبيوت الجميلة، تاج دمشق مسجدها الأمويّ، وتاج صنعاء مسجدها الكبير، والمسجدان من أوائل مساجد الإسلام... وللمدينتين ذات الإطلالة المؤثّرة من بعيد.. مئات المآذن المتطاولة نحو السماء.. تمتدّ مشتاقة إلى الله. 
ما أنْ تدخل أياً منهما وتطابق قدماك مواطئ أقدام العظماء الذين مرّوا في دروبهما.. حتّى يسري إليك ما يُعتمل داخلهما من طاقات روحيّة كامنة.
ما زال لكلتيَّ العاصمتين الموغلتين في القدم قلبٌ نضِر ينبض بالحياة، يتفرّع داخله شريان "الحميديّة" في دمشق و"الملح" في صنعاء... وربّما كان نهوض الاثنتين على أكتاف التجار قد أفرز تلك العادات والتقاليد والمفاهيم المشتركة بينهما. 
دمشقُ شرَّعت أبوابها لكلّ الجنسيات والأعراق والأفكار، فتعاقبت عليها السلطات والأقوام لتضفي على شخصيّتها الواضحة نكهات الحضارات الأُخرى ولم تتنازل أبداً عن لقبها كعاصمة، أمّا صنعاء التي أوصدتْ بوّاباتها دون رياح التغيير وحصّنت نفسها ضد الغزاة (حتّى سُمّيتْ اليمن بمقبرة الأناضول) ، فلم تعرف غير صورتها الأولى واحتفظتْ بشخصيّة فريدة صرفة منتزعة لقب "عاصمة" مرّات عدة في التاريخ. 
اتّكأتْ دمشق على "قاسيون"، احتضنتها الغوطة الفيحاء وعانقها بردى، في حين استلقتْ صنعاء في فيء جبال "نُقم" و "ظفار" و"عيبان"، وتسللتْ المساحات الخضراء داخلها في "مقاشم" المساجد وروّت "السائلة" قلبها... وللأسف عانت المدينتان في العقود الأخيرة من اجتياح الاسمنت لأخضريهما...
لكلتيهما قلعة، وإن كانتْ صنعاء القديمة بأكملها قلعة داخل سورها الحجريّ ببواباته السبعة التي بقي منها "باب اليمن" جنوباً، بينما يتخلل سور دمشق القديمة بوّابات سبع ، يُقال إنّه من أحدها سيخرج المسيح الدجال ذات يوم!. 
تسامقتْ بيوت صنعاء بتكويناتها الشاقوليّة نحو السماء، انفتحتْ بجرأة على البساتين والساحات.. لتوفّر في مساحة الأرض الزراعيّة وتلبّي حاجات الدفاع الحيويّة في حياة اليمنيين، في حين عمدتْ بيوت الشام إلى التناثر الأفقيّ المريح حول فسحات سماوية ظللتها الأشجار وعطّرتها الورود... 
وبإيمانها بـ "الجوهر لا المظهر"، طوّقت الواجهات الدمشقيّة البالغة التواضع والبساطة حميميّة تتابع قاعات وفناءات، أسقط المعمار المبدع في جنباتها جُلّ روحه زخارف وألوان وتفاصيل، بينما "احتفلت" واجهات البيت الصنعاني بـ"مهرجان" من الزخارف والنقوش، لتستعرض كلّ زينتها في الخارج, خشب محفور ونقوش ورسوم جصيّة بيضاء.
بثوبها المُحاك من حجارة البازلت وطوب الطين المشويّ، نجحتْ صنعاء أن تفرض شيئاً من شخصيّتها حتّى خارج أسوارها القديمة، فزُيّنت واجهات المباني الصنعانيّة الحجريّة الحديثة بالقمريات والزخارف البيض المميّزة، بينما انقطع تواصل دمشق مع هويّتها وبيوتها الطينيّة بفراديس فسحاتها السماويّة خارج أسوارها... واعترافاً بعراقة مدينتين ظلّتا على الدوام مصدر إشعاع علميّ وفقهيّ، سجلت اليونسكو دمشق في عام 1982م وصنعاء في عام 1983م على لائحة التراث العالميّ، وزُفّت صنعاء عاصمة للثقافة العربيّة في عام 2004م، لتعقبها دمشق في عام 2008م.
ولستُ وحدي من يربط بين وجهيّ دمشق وصنعاء، فقد قال أحمد القلقشندي عن هذه الأخيرة قبل 600 عام تقريباً: "هي من أعظم مدن اليمن وبها أسواق ومتاجر كثيرة، ولها شبه بدمشق لكثرة مياهها وأشجارها، وهي كرسيّ ملوك اليمن في القديم".
والبردّوني يتغنّى بالعلاقة بين صنعاء ودمشق بل ومصر أيضاً:
ها نحن نبني فوق هامة مأرب
وطناً ونبني ألف صرحٍ مرمري
وتعانقت صنعا ومصرُ وجِِلّقٌ
فيها عناقَ الشوق والحُبً البري
وجرى على النيل المصفّق صنْوُه
بَرَدى فصفّق كوثرٌ في كوثرِِ
أحبُّ المدينتين.. وأجد في كلّ منهما بعضاً منّي.. وأشعرني محظوظة بعلاقتي الوثيقة ببلدين خصَّهما الرسول صلّى الله عليه وسلّم بدعائه: "اللهم بارك لنا في شامنا و يمننا".
ولكن، ولأن أيّاً منهما لاتشبه اللاذقية.. مدينتي الساحليّة الصغيرة ببساطتها وعفويتها، لم أُفلح -رغم الصحبة الطويلة- في لمس الأعماق الحقيقيّة لأي منهما.
  • تعليقات الموقع
  • تعليقات الفيس بوك
عذراً خاصية التعليقات مغلقة حالياً
Item Reviewed: "في ظلال بلقيس"من دمشق إلى صنعاء... لــ د.ريم عبد الغني Rating: 5 Reviewed By: وكالة السبئي للانباء-سـام
عذراً خاصية التعليقات مغلقة حالياً