![]() |
بقلم / ريم عبد الغني |
وداعاً 2013...
عندما دوّى صفير القطار معلناً عزمه على مغادرة محطة ٢٠١٣... لم يهرع الجميع إلى النوافذ كالعادة للتلويح والوداع..
والدموع التي ذُرفت، لم تك دموع خوف الفراق، بل دموع أسى وعتاب...
هذا بالنسبة للركاب في مقطورة وطني على الأقل... وأكاد أجزم أنها حال ركاب المقطورات الأخرى حيال هذه المحطة وربما التي سبقتها ايضاً..
عندما دقت الساعة منتصف الليل، معلنة انطلاق عام جديد، هدرت قلوب ملايين السوريين بذات الأمنية... أن تتعافى سورية ويعود السوريون ...
وفي حين كنا في دمشق فيما مضى ننتظر رأس السنة لنحتفل مع الأهل والأصدقاء ... فقد كان مجيء المناسبة هذه المرة مفعماً بالقلق واجترار الذكريات...
"أين تحتفلون برأس السنة؟"... السؤال التقليدي يثير حفيظتي.. فمشاعرنا تسبغ المفردات بدلالاتها..
أين؟. لا يعود الأين مهما حين تكون خارج "أينك"..
تحتفلون؟ أجساد ترقص تحت الأضواء... وطفل يرتجف برداً في ظلام خيمة على أطلال حضنت من اعتادوا حضنه...
رأس السنة؟... أي رأس فيه عقل لهذه السنة العابثة التي رزحت فوق قلوبنا دهراً؟... لا يمكن أن تقاس كغيرها ب ٣٦٥ شروق شمس... كانت غروباً طويلاً... خلناه لن ينتهي...
*****
"ماذا ستفعلين ليلة رأس السنة ؟ .. أكيد ستقرئين أو تكتبين.. ستكون نهايتك تحت كتبك كالجاحظ"...
قالت صديقتي سلوى بحنق وهي تودعني، بعد ان اعتذرنا عن مرافقتها وزوجها كمال وأولادهما رولا وشادي للاحتفال في دبي.
لكنها في اليوم التالي اتصلت بي من دبي تقول:
"كان يجب أن أسمع نصيحتك... لن تصدقي كيف قضينا ليلة البارحة..
حجزنا أماكننا للعشاء ليلة رأس السنة في مطعم مطل على النافورة الموسيقية تحت برج خليفة أطول أبراج العالم، لمتابعة الألعاب النارية التي أُعد لها منذ أشهر... لعلها تبشر بسنة جديدة أفضل، وأقمنا لذلك في فندق على مقربة من المكان..
خرجنا في التاسعة والنصف من مساء ٣١ ديسمبر ٢٠١٣ إلى الشارع... لنفاجأ بطوفان من البشر... كأن العالم كله اجتمع هنا الليلة، ففي دائرة نصف قطرها بضعة كيلومترات حول برج خليفة، كان السير متوقفاً ومعظم الشوارع مقفلة والشرطة تحاول تنظيم حركة مئات الآلاف من مختلف الجنسيات الذين أتوا لمشاهدة مهرجان الألعاب النارية حول البرج وتراقص المياه على أنغام النافورة الشهيرة أسفله، قالوا إنه سيكون العرض الأضخم وربما يدخل موسوعة جينيس للأرقام القياسية..
أرعبني التدفق الهائل للبشر والسيارات، واقترحت إعفائي من العشاء... لكني استسلمت لإلحاح ابنتي ورافقتهم..
كان الوصول إلى سيارتنا ضرباً من المستحيل.. و كان الحل في إيقاف أي سيارة أجرة... ولكنها في هذه الظروف تعتبر قطعاً نادراً.. طوبى لمن يحظى بها في هذا الزحام...
تتابع سلوى بخفّة ظلها:
فجأة.. ظهر فارس أسمر فوق سيارة بيضاء... السائق الباكستاني ابتسم بثقة: "لا تقلقوا سأوصلكم الى مقصدكم خلال دقائق.."
فكرت "هذه على الاقل صدفة تحسب إيجاباً لل"٢٠١٣".
الباكستاني ينطلق بنا بسرعة لبضعة أمتار فقط، فيما تبين لاحقاً إنه الجزء الأسرع في رحلة العذاب.. فقد وجدنا أنفسنا بعد ذلك عالقين ضمن طابور سيارات لا يتحرك ,,,
إذاً. ما هو الاختراع الذي وعدتنا به يا محمد؟.
محمد ما زال يجيب بثقة مستفزة إنه سيوصلنا خلال دقائق...
أتعرفين؟ لم أر في حياتي زحاماً كهذا... الآن فهمت لماذا يقولون "زحام خانق". شعرت حقاً بالاختناق.
لاحقاً استنتجت سر هدوء الباكستاني، فقد اصطاد أربعة مغفلين في سيارته التي لا يملّ عدادها من حساب الدراهم...
كان الزمن يمر بطيئاً والسيارة بالكاد تتحرك والبرج يبتعد بدلاً منًأن يقترب ... ومحمد يدندن أغنية باكستانية خيّل إليّ أنه ألف كلماتها عن سذاجتنا....
لديه الحق، لو سرنا على الأقدام لما استغرق "المشوار" كله أكثر من ٢٠ دقيقة، لكن المشكلة -كما تعرفين- في الكعوب العالية... الاختراع السخيف الذي يحرم النساء متعة المشي الطبيعي..
مرت أكثر من ساعة... ونحن ندور وندور..
ضحكت سلوى: "تصوري زوجي كمال الهادئ وهو يفقد أعصابه. بينما يكتفي الباكستاني بهز رأسه.. أترجم له غضب زوجي ببضعة كلمات بالإنكليزية. فأجده يسلك فجأة طريقاً جانبياً مفتوحاً... ابتسمنا راضين... ليتنا أريناه "العين الحمراء" منذ البداية. لكنه ينحرف جانباً ويوقف السيارة ليغادرها دون أن ينبس ببنت شفة... عيوننا تتابعه باستغراب.. يعبر الشارع ويدخل مطعماً يبدو هندياً أو باكستانياً، الدقائق تمر والبرج ما زال بعيداً، والزحام يتدفق على مقربة، والعد العكسي يتسارع نحو الساعة الثانية عشرة. والباكستاني اللعين مختف..
مرت دقائق عشر... قرر ابني شادي بعدها أن يتبعه بعد أن فاض بنا الكيل، لكن فارسنا يظهر فجأة ببنطاله الأسود وقميصه الذي يشكو كثرة الالوان، يجلس وراء المقود وينطلق بنا دون أن ينطق بحرف أو ايضاح...
الله يرحمك يا أم كلثوم.... للصبر حدود... ضبطت أعصابي بصعوبة لأسأله بتهذيب "أين كنت؟"
يجيبني باستخفاف "ذهبت لقضاء حاجتي في حمام المطعم"...
لم يكن بإمكاني أن أجادله أو أشرح له بأنه كان عليه الاعتذار أو الاستئذان... ثم من يصدقه ورائحة بهارات الطبخ الآسيوي أزكمت أنوفنا حالما دخل السيارة. فلنصمت... نحن الآن تحت رحمته..
نعود ضمن أرتال السيارات... نكاد نتبادل الأحاديث مع جيراننا الذين يشاركوننا القدر في السيارات المجاورة بنوافذها المفتوحة.. نضطر لسماع ما اختاروه من أغاني...
تتسلل معها نسائم منعشة... لا عجب أن زحف العالم إلى هنا اليوم، لكن زوجي لم يكن مهتماً بجمال الطقس... كان مشدوداً إلى عقارب ساعته التي تبعده تدريجياً عن الموعد.. اعتاد كمال الدقة في مواعيده وقد أدرك منذ البداية أن السائق اللعين سيزيد المسافات كي يزيد الأجر...
كم المسافة مباشرة إلى البرج الذي يلتمع بالأضواء يا ترى؟ ربما سبعة أو ثمانية كيلومترات...
يتخذ قراره بسرعة، يترجل وشادي ليتجها سيراً إلى المكان... مخترقين الحدائق والدروب بين البيوت.. أما أنا وابنتي فنقرر -وقد بقينا في السيارة- استثمار الوقت المتبقي من ال٢٠١٣...
ألم تقولي لي يوماً أنك قرأت أن "الامر لا يتعلق بالجحيم بل بمهارتنا في السير وسط نيرانه"؟.
وفي جحيم الانتظار واختناق السير تحدثنا في ما كنّا سنقوله لو كنا نجلس -كما كان مفترضاَ-حول طاولة العشاء التي تنتظرنا هناك حيث شعلة النور.. حول أفضل وأسوأ خمسة أمور مرّت بكل منا في عام ٢٠١٣.
ترى هل نجح كمال وشادي بالوصول الى المطعم؟ الاتصال بهما كان مستحيلاً لأن الخطوط الخليوية في دبي كانت مزدحمة أيضاً.
الساعة تشير إلى الحادية عشرة والنصف، الوقت يمر وأنا لم أعد أفكر بالوصول إلا إلى فراشي... تقرر ابنتي أن تحذو حذو أبيها وأخيها فتترجل هي الأخرى مشياً على الأقدام وأبقى في السيارة وحدي...
الثانية عشرة.. تهتز الدنيا بأصوات الآلاف في الشارع...تشتعل سماء دبي بشلالات مذهلة من الألعاب النارية، يتوقف السير وينزل الناس من السيارات لمشاهدة وتصوير هذا المشهد الخرافي... وينزل معهم محمد الباكستاني أيضاً..
أنت الآن تتشفين بي... أليس كذلك؟... ما كنت أتخيل أني سأودع سنة -٢٠١٣ وحدي... بعيداً عن أسرتي وأهلي وبلدي، في سيارة أجرة بيضاء مع سائق باكستاني محتال أو غبي لا فرق..
أنهت سلوى حديثها بما اعتبرته حكمة:
"هيك سنة بدّا هيك نهاية"...
قلت لها: أما الآن فقد بدأ عام جديد يا صديقتي... عساه أفضل من كل الأعوام التي مضت.. فلنبتهل إلى الله أن نحتفل برأس السنة القادم معاً في دمشق معافاة.. ليس في زحام دبي وتحت الألعاب النارية من أبراجها... بل في زحام ساحة الأمويين وتحت الألعاب النارية من قاسيون..