السبئي نت - سانا:يفضح كتاب "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول" للمفكر الفرنسي بيير بورديو الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام الحديثة من تلاعب وتأثير في عقول الناس وكيف تقوم هذه الوسائل وفي مقدمتها الفضائيات التلفزيونية بتشكيل الأفكار والرأي العام عبر من يتحكم بهذه الآليات وبإداراتها لتطبيق ما يسمى بالأيديولوجيا الناعمة التي تتمثل بتلك الجرعات اليومية واللحظية التي تبثها محطات تلفزيونية بعينها من خلال الوسائط المتعددة والإنترنت وسواها.
ويلفت بورديو في مقدمة كتابه الصادر حديثاً بطبعته الثامنة عن دار كنعان بدمشق إلى خطورة العمل الرمزي للتلفزيون والذي يتمثل في جذب الانتباه نحو ما يسميه بصحافة الإثارة وإعلام الدم والجنس والجريمة حيث تتربع هذه المواد البصرية على عرش جذب المشاهدين بل وتتصدر الفقرات الأولى من النشرات الإخبارية المتلفزة حيث أن هناك نسبة كبيرة من جمهور هذه النشرات الدموية الذين لا يقرؤون أية صحيفة أو كتاباً ووهبوا أنفسهم جسداً وروحاً للتلفزيون كمصدر وحيد للمعلومات إذ يمارس القائمون على النشرات الإخبارية فن حجب المعلومات أو لعبة "المنع بواسطة العرض" وذلك بوساطة عرض شيء للمشاهدين غير الذي يجب عرضه.
وينوه الكاتب الفرنسي الراحل عام 2002 في كتابه إلى المخاطر السياسية الملازمة للاستخدام العادي للتلفزيون من حقيقة أن للصورة خاصية يمكن أن تنتج ما يسميه نقاد الأدب تأثير الواقع فالصورة يمكن أن تؤدي إلى رؤية أشياء والاعتقاد فيما تراه لتخلق هذه الصورة التلفزيونية أفكاراً وتعبيرات يمكنها بدورها أن تنتج مجموعات يتم تعبئتها وتوريطها بمضامين سياسية وأخلاقية وثقافية واجتماعية قادرة على إثارة مشاعر سلبية مثل المشاعر العنصرية والعرقية والعداء للآخر.
ويدعو الكتاب الذي نقله إلى العربية المترجم درويش الحلوجي إلى ضرورة إعادة النظر والتأمل في الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام العربية والدولية على حد سواء وخصوصاً القنوات الفضائية العابرة للحدود الجغرافية فيما يتعلق بالأحداث التي تشهدها المنطقة العربية في فلسطين والعراق وسواها فهذه القنوات لم تعد مجرد قنوات تقدم برامج للتسلية والترفيه إنما هي كما يؤكد بورديو أصبحت أدوات للضبط والتحكم السياسي والاجتماعي في المجتمعات العربية وسواها من المجتمعات في العالم إذ أصبحت قنوات مثل الجزيرة والعربية عبارة عن أدوات للعنف الرمزي الذي يمارسه مالكو هذه الفضائيات.
ويكشف صاحب كتاب "بؤس العالم" عن الدور الذي تقوم به التلفزيونات العابرة للحدود من تلاعب وتأثير في عقول الناس وكيف تقوم وسائل الإعلام الحديثة وفي مقدمتها التلفزيون في تشكيل الأفكار والرأي العام وكيف تعمل هذه الآليات في توجيه الشعوب وإقحامها في ألعاب الأمم بهدف توجيهها نحو استراتيجيات محددة عبر إحكام السيطرة على العقل الجماعي لشعب من الشعوب عبر تفضيل مصلحة فئة معينة من فئات مجتمع ما ضد شرائح اجتماعية أخرى من خلال تأليب هذه على تلك تحت حجة الديمقراطية وحقوق الإنسان ورغبة المجتمع الدولي في إحداث التغيير.
كما يميط كتاب بورديو اللثام عن جوهر الميديا الحديثة وما تنتجه من برامج وصور بعيدة عن أية موضوعية وتعكس رؤية للعالم غير محايدة سياسياً نتيجة سياسة الليبرالية الجديدة أو ما يطلق عليه عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم "الخلل أو الفوضى والانحراف عن النظام الطبيعي" ليصل الكاتب إلى ضرورة مواجهة الأخطار التي تفرضها تلك السياسة الليبرالية الجديدة التي تهدد مستقبل العالم كله.
ويدعو بورديو إلى خلق أدوات من شأنها أن تقف ضد التأثيرات الرمزية التي يمارسها خبراء دوليون يعملون لدى شركات متعدية الجنسيات مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي ولذلك يدعو المفكر الفرنسي إلى مناهضة هيمنة سياسات البنك الدولي نحو تأسيس حركة عولمة بديلة تقف في وجه غيلان النظام الرأسمالي الدولي.
ويشير الكاتب إلى أن هناك أسماء أسر وأفراد سواء في أمريكا أو أوروبا أو العالم العربي إضافة إلى شركات صناعية ومالية كبرى تقف وراء شبكات التلفزيون والراديو وكبريات الصحف والمجلات التي تؤثر على الرأي العام وتشكله على نحو روبرت مردوخ إمبراطور الميديا وصاحب كبريات الصحف البريطانية الواسعة الانتشار إضافةً لملكيته لشبكات التلفزيون وقنوات البث عبر الأقمار الصناعية مما يدفع للسؤال عمن يملك أجهزة الإعلام في الفضاء العربي ومن يضع سياستها وخصوصاً شبكات التلفزيون التي تشكل الرأي العام وأية قيم وأفكار ثقافية تروج لها الفضائيات العربية وعن أية مصالح اقتصادية واجتماعية تعبر قنوات مثل الجزيرة والعربية وقنوات الفتاوى الدينية.
يذكر أن كتاب "عن التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول" لبيير بورديو صدر للمرة الأولى عام 1996 ككتاب جيب في فرنسا ولاقى نجاحاً كبيراً وهو يقع في 188 صفحة من القطع المتوسط أما بيير بورديو فهو من المفكرين الكبار الذين وضعوا بصمتهم الفكرية وأثروا بشكل عملي على الحركات الاجتماعية والسياسية التي شهدها النصف الثاني من القرن العشرين حيث يعتبر من أهم المنظرين الذين تعد مؤلفاتهم أدوات للنضال الفكري والاجتماعي ضد العولمة ومراكزها في واشنطن وأوروبا وآسيا لاسيما ما وجهه هذا المفكر الفرنسي من نقد حاد لوسائل الإعلام الفرنسية فاضحاً تبعية المثقفين الفرنسيين وفسادهم مطلقاً عليهم لقب "كلاب الحراسة الجدد".
سامر إسماعيل