![]() |
بقلم / د.م. ريم عبد الغني |
أزيح الستارة لتغمر الشمس حنايا الغرفة..
نهار جديد...
زيارة سريعة للمطبخ تعقبها قائمة بالحاجات المطلوبة...
على عجل.. أرتدي ثيابي وأغادر......
لسعة برد تتسلل من خلال السترة الصوفية الخفيفة... لم أرتد معطفاً منذ زمن طويل.. كأنه فقد مكانته.. كان ضرورياً أيام زمان.. عندما كان برد كانون "يقص المسمار"... هكذا تعلمنا وصفه...
-"طقس جميل يبعث على التفاؤل"... بادرتُ أبا يوسف..
رد البقال العجوز وهو يرص بعض ما طلبته في الميزان:
-"ليس بالنسية لنا وللمزارعين سيدتي.... الزرع يموت عطشاً... بل قد اختلط الأمر على الاشجار فاعتقدته الربيع وبدأت بالإزهار في غير وقته"...
يتابع بقلق:" قد ينتهي الأمر بكارثة اذا قرر الشتاء فجأة أن يستعيد سحنته"...
حسناً... يبدو أنني قد أبرمتُ على محادثتي معه منذ العبارة الأولى ...
بدا تفاؤلي بشمس اليوم سطحياً..
لكنها حقاً مغرية... فلأدع كلام أبي يوسف ورائي.. ولتتحمل الأشجار مسؤولية حل مشاكلها مع الطقس...
********
-"عزيزتي.. الطقس رائع ... ما رأيك بالخروج في نزهة ؟"
عصف صوت صديقتي من سماعة الهاتف مستنكراً: "رائع؟.. بل مريع.. يدعو للحزن والقلق... الا تدركين خطورة الأمر؟"..
اكتأبت وأنا أضطر لتلقي محاضرتها عبر الهاتف:
" طقس يشير إلى اختلال خطير في نظم البيئة.. نحن في بيروت في عز الشتاء.. لا برد ولا مطر... بينما تهطل ثلوج في القاهرة و تبوك؟..
هذه بداية سلسلة كوارث "الاحتباس الحراري".. هل سمعت أصلاًعن "الاحتباس الحراري". ؟
دون أن تنتظر جوابي تابعت بحماس:
"لمعلوماتك، فما وصفته قبل قليل "بالـطقس الرائع"، هو أحد نتائج ظاهرة الاحتباس الحراري Global Warning ، حيث ترتفع درجات الحرارة في أدنى طبقات الغلاف الجوي، بسبب تزايد بعض الغازات الدفيئة، التي تلعب في الأصل دوراً حيوياً في تدفئة سطح الأرض إلى حد الحياة... لكن عندما يزيد تركيزها في الجو -وخاصة ثاني أكسيد الكربون- يختل الاتزان الحراري فتحدث تغيرات في المناخ والجو... كل ما يزيد عن حدّه ينقلب إلى ضده.... أليس كذلك؟.
تكمل بعتاب: وطقسك "الرائع" في ذروة الشتاء... سيتسبب لاحقاً في إذابة أجزاءً كبيرة من ثلوج القطبيتين... وهذا يعني أن تنقص مياه الشرب رويداً رويداً، ويرتفع منسوب البحار لتغرق مستقبلاً الجزر والمدن الساحلية ومنها لاذقيتك...
قاطعتها بسخرية: فأل الله ولا فألك... سيدة "نوسترادموس"..
ردّت بجفاء: لست عرافة... هذه نتائج أبحاث علمية.. لقد أخذ الجليد فعلاً في القطبين وفوق قمم جبال أستراليا في الذوبان بشكل ملحوظ... بالمناسبة، إذا كنت لم تزوري بعد جبال الألب فأنصحك بزيارتها في أقرب فرصة، لان ارتفاع الحرارة سيقضي على معظم الثلوج المتراكمة على قممها خلال السنوات الاربعين القادمة مما سيتسبب بفيضانات مدمرة في أوروبا...
اسمعي.. يجب أن تقرئي حول ذلك.. العلم يشير إلي أن هناك من سيموتون من الحر والجفاف والتصحر والجوع في أماكن، ومن سيتعرضون-في الوقت ذاته- للتشريد أو الغرق نتيجة للفيضانات في أماكن اخرى،.. ناهيك عن حرائق الغابات والتلوث وانتشار الافات والامراض المعدية... أجل.. للأسف، ستنقرض الكثير من انواع النباتات والحيوانات وستتغير انماط الرياح والأمطار وسيتسارع تواتر الاعاصير والزلازل والبراكين...
اللعنة... هل ضغطت خطأ زر المذياع على محطة مملة تنذر بنهاية العالم؟.. كيف بالإمكان إيقاف هذا الإعصار؟ أنتقد نفسي بشدة لاعتراضي على إطلاق أسماء نساء -كأليكسا وميشا وجيسكا-على العواصف والأعاصير...
ينهي "إعصاري" الحديث بصفعة:
"طقس رائع؟... رائع؟ هذا لا يعكس إطلاقاً إحساساَ بالمسؤولية"...
********
أضع السماعة مكانها، مكسورة كطفل عوقب على إثم لم يرتكبه...
كل هذا الصداع لأني قلت "صباح رائع"؟... تذكرت عبارة أستريكس الشهيرة "أخشى أن تقع السماء على رؤوسنا" .. رغم أن من يجيدون فن اللامبالاة يقولون: "وماذا لو وقعت؟... لن ينالك منها سوى قدر رأسك!!!!".
ثم ... "هذا لا يعكس إطلاقاً إحساساً بالمسؤولية"..؟ فكرتُ بحنق:
ربما كان علي أن أوضح لها أنني لا أمسك بذراع دوران الكرة الأرضية... ولم "أخبز" شمس هذا النهار في مطبخي...
أضع المشتريات في أماكنها. ...
سأحاول انجاز أعمالي بسرعة كي أفي بوعدي لنفسي بالاستمتاع بدفء هذا اليوم الجميل...
لكن.. جملتها لا تنفك تنخر رأسي...
حسناً.. ربما كان لديها بعض الحق..
هذا ليس طقس "شتائنا" الذي كان يأتي محملاً بالثلج والمطر... يؤجج لهيب المدفأة حول الكستناء المشوية... نتبارى في تشكيل لوحات الضباب الأبيض ترسمها أنفاسنا فوق زجاج النوافذ والسيارات.... نفرك أيادينا ببعضها نستحضر الدفء، نغفو على وقع رذاذ المطر فوق قرميد السطح .. نحتضن الغطاء المعطر بنظافة أمي...... نخبئ داخله خوفنا من هزيم الرعد والتماع البرق.. وضآلتنا أمام جبروت الطبيعة...
تنهمر الذكريات... معها حق... أين توارت شتاءاتنا؟..
أين بخار"طست" الماء الساخن الأزرق ... يمسّد أبي فيه قدميه شاكياً لأمي صقيع نهاره الشاق؟
الدروب المبللة.. رائحة ارتواء الارض مشوبة بنكهة احتراق حطب المدافىء... الحساء الشهي .. قبعات الصوف الملونة فوق رؤوس الأطفال... وفنجان الشاي الساخن حين يغدو مكافأة نترقبها...
كان الشتاء يشبه أبي... جباراً في غضبه... كريماً في عطائه ... وحنوناً... إذ يضمنا...فنتلاصق سعياً للدفء ...
أمدّ البصر عبر النافذة... السماء صافية تماماً.. وقمم الجبال تشتاق الثلج...... خسارة أن يفقد الشتاء هويته... يبدو اليوم ربيعاً حقيقياَ...
"ربيع"؟ صارت كلمة ملغومة.. مضحك ومبكي أن تقودني محاولات التفكير الإيجابي إلى أن الشتاء "الجديد" ربما جاء رحمة بآلاف السوريين الذين رماهم "الربيع العربي" في العراء والخيام..
*******
للحديث بقية-إن شاء الله-في الأربعاء القادم....
ريم
رئيسة مركز تريم للعمارة والتراث