728x90 AdSpace

17 سبتمبر 2014

رحم الله... العرب

 بقلم د. ريم عبد الغني
رحم الله... العرب
أوافق كولن ويلسون، الكاتب البريطاني المبكر النبوغ، اعتقاده بأن الشعراء والفنانون هم الأقرب للوصول إلى القدرات الأعلى.. الحاسة السادسة وقوى ما فوق الطبيعة.. الأقدر على الاستبصار..

ورغم أن نزار قباني توفي -لحسن حظه- قبل عواصف الشتاء العربي، لكنه كان"يرى" عصر الانحطاط العربي الحديث..الذي طال حتى ليبدو بلا نهاية... 
ومع أنه لم يرافق المهاجرين السوريين في تلك الرحلة المرعبة بين الجزائر وصحراء ليبيا إلى الشاطيء الذي سيبحرون منه إلى إيطاليا بصورة يدعونها غير شرعية (والأدق "غير إنسانية") فقد كان "يرى" بالتأكيد حين قال:
لا تسافر بجوازٍ عربي.. بين أحياء العرب
فهم من أجل قرش يقتلونك..
وهم –حين يجوعون مساء- يأكلونك 
لا تكن ضيفًا على حاتم طي
فهو كذاب.. ونصاب..
فلا تخدعك آلاف الجواري..
وصناديق الذهب.. 
يا صديقي: 
لا تسر وحدك ليلًا.. 
بين أنياب العرب.. 
يا صديقي: 
رحم الله العرب!!!
*****
في اتصال هاتفي لاحق.. تابع مجد إخباري بأحداث رحلتهم:
"منذ وصولنا غدامس في الصحراء الليبية طلب عمر من كل منا مبلغاً كبيراً مقابل المأوى والطعام.... احتججنا كوننا دفعنا للتو لمحمد صالح... مقابل تكفله بكل حاجاتنا حتى نصل الميناء.. لكنه ابتزنا بحجة أن وجودنا في ليبيا غير شرعي، وأننا لن نتمكن من الخروج للتبضع او الأكل..
لا حول ولا قوة الا بالله.. حكم القوي عالضعيف.. قبلنا بالتأكيد... دون مفاوضة.. فالمجموعة التي تلتنا ساومت المهرب محمد صالح قرب الحدود.. ورضي بنصف السعر.. لكنه أرسل لهم في الدرب الذي مشوه لاجتياز الحدود مثلنا.. عصابة سطت على كل ما معهم من مال وهواتف جوالة... ووصلوا إلينا في غدامس دون فلس واحد.. ولكي يقبل عمر أن يأويهم.. اضطررنا لجمع مبلغ صغير من كل منا... المحن توحد ضحاياها..
********
مكثنا طويلاً في غدامس..
كانت ثيابي بعد غسلها لا تستغرق أكثر من عشر دقائق لتجف..
كان الحر لا يطاق نهارا وأحيانا البرد قارس ليلا .. 
وبسبب عددنا الكبير مقارنة بصغر مساحة البيت.. كنا ننام ملتصقي الأجساد.. كان البعض يفضلون النوم فوق سطح المنزل ليلاً إلى أن تلسعهم شمس الفجر.. 
الماء مالح وساخن يجلبه عمر يوميا من البئر... وهل يدع العطش مجالاً للتردد او الاعتراض؟..
عمر يأتينا أيضاً كل يوم بمجموعة حزم من المعكرونة وبضعة زجاجات زيت وعلب معجون البندورة.. كل مجموعة تطبخ لأفرادها.. إضافة إلى قطعة كعك واحدة لكل فرد يمن بها علينا عصر كل يوم.. وأحياناً كان يطلب منا الخروج الى حر الشمس كي تستخدم النساء المطبخ لتحضير طعامهن.. 
توالت الأيام ببطء قاتل.. كنا نحاول خداع الانتظار بلعب الورق.. رباط غريب خفي جمع بيننا نحن رفاق رحلة الجحيم الذين جاؤوا من كل مكان في سورية ...
لكن التوتر كان مختبئاً.. .. ينفجر بين الفينة والأخرى في مشاحنات غبية..
فالكل يائس ومقهور وحزين.. بل وخائف.. حتى الأطفال المساكين المرتمين فوق الارض يحدقون في الفراغ ...دون حراك... 
وسيلة الاتصال الوحيدة بالعالم الخارجي كانت عمر الذي كان يخبرنا كل يوم عن وصول أفواج سبقتنا إلى ايطاليا.. نختار أن نصدق كي نستمر.. ويتخدر قلقنا غير عارفين أنه يكذب.. وأن معظمهم قد غرق..
المجموعة الجديدة من السوريين التي وصلت في اليوم الثالث لم يكن لها مساحة سنتيمتر مربع واحد في البيت معنا... لذا وضعوا في غرفة خارج البيت ما زالت قيد الإنشاء... بلا مكيف ولا كهرباء.. كان وضعهم مأساوياً..
لكن الأسوأ من كل ما ذكرت.. هو الشعور بالذل والقهر والعجز.. فعمر وصديقاه الليبيان وكذلك الشابان الافريقيان تحت أمرته.. كانوا يتعمدون معاملتنا بشكل يشبه ما قرأناه عن اضطهاد العبيد.. لم تتوقف إهاناتهم عند الشتائم والصراخ بل تعدتها إلى الضرب أحياناً.. 
كتلك المرة التي كان هشام زميلنا يغسل ثيابه قرب البئر أمام البيت..
لمحه عمر فصرخ به من بعيد أن يتجنب رجوع ماء الغسيل إلى داخل البئر.. ويبدو أن الشاب السوري المسكين لم يفهم العبارة باللهجة الليبية.. فتابع.. مما أغضب عمر الذي استل بندقيته وأطلق طلقتين بجانب رأس هشام وهو يكيل له أقذع الشتائم.. وربما كل من مر قبلنا من السوريين نال منها وحفظ بعضها وأهذبها عبارة يأمروننا بها باستمرار "كعمز لوطه" ومعناها اجلس القرفصاء.. 
هشام المذهول والخائف، نال بعدها صفعتين قويتين... 
حنينا الرؤوس ولم نستطع أن نفعل شيئاً للدفاع عنه.. كان فظيعاً أن تكبت الغضب وأنت تتعرض أو ترى أهل بلدك بل أي إنسان يُساء لكرامته بهذه الطريقة..
لكننا ابتلعنا قهرنا مع الطعام السيئ الذي كانوا يقدمونه لنا كأنه صدقة رغم أنهم قبضوا ثمنه أضعافاً.. وعلى كل حال فقد شح الطعام بعد أربعة ايام.. كما نفد الغاز.. أحد الشباب السوريين تبرع بأن يخبز خبزاً على الأقل من أجل الأطفال.. إذ كان لدينا بعض الطحين.. تعاوننا لإيقاد النار وعجن العجين.. وأكلناه كله رغم طعمه المر والمحروق..
هذا هو الجحيم بعينه... لا أعتقد أنه قد يكون أسوأ... تساءلت وأنا أسترجع مقولة قرأتها للكاتب "ايتالو كالفينو":"فتش في الجحيم عن كل ما هو غير جحيم"... هل كان هناك أي بقعة أقل جحيماً من غيرها في الوطن نلوذ بها كي لا نواجه هذا العذاب؟
*****
كنا نعد الثواني لمغادرة غدامس غير دارين أن القادم أسوأ...
في اليوم الخامس وصلت سيارة ترجلت منها سيدة سورية.. هالا سكرتيرة زعيم المهربين محمد صالح.. كان دورها تخويف النساء ثم الرجال.. وتأكيد خطورة الرحلة وأهمية الطاعة.. لا سيما والطريق موبوءة بقطاع الطرق..
في اليوم السادس قبيل منتصف الليل .. توقفت أمام البيت بضع شاحنات.. "تارات" باللهجة الليبية.. وقيل لنا أن على كل منها أن يتسع خمسين رجلاً في رحلة متواصلة ستستغرق 27 ساعة بين غدامس وجوار طرابلس..
طلب عمر من كل منا دفع مبلغ كبير مقابل ركوب القارب لاحقاً.. البعض اشترط الوصول إلى المركب أولا.. والبعض دفع له ما أراد وخاصة ذوي العائلات..
أعتقد أن هذا كان القسم الأقسى من الرحلة.. يؤلمني حتى تذكره..
النساء والأطفال حشروا قرب السائقين... لا أفهم كيف اتسع لهم المكان ولا حتى لنا.. كنا نجلس القرفصاء في قفص الشاحنة المكشوفة... ملتصقين إلى حد الوجع..
كان موقعي ومعاذ الأسوأ...وربما كل واحد في الشاحنة أعتقد الأمر ذاته.. كنا في أول رتل وظهورنا مستندة الى الحديد.. وكلما وقفت الشاحنة أو توقفت، ضغط ثقل الصفوف أمامنا على أجسادنا الملتصقة بالحديد.. حتى لتوشك أن تزهق ارواحنا.. وكان ذلك يتكرر طوال الطريق بسبب القيادة الرعناء للسائق الذي ملأ فمه باللقاط – وهو نوع من الحشيش.
والسائق الليبي لم يكن يتجاوز 18 من العمر.. لا أعتقد أني عرفت معنى الكراهية قبل أن ألتقي به.. فقد كان يلقي الأوامر بعنجهية : ممنوع الوقوف.. ممنوع مد الرأس خارجاً..ممنوع الكلام .. قائمة من الممنوعات لم تستثن إلا التنفس.. وكل هذا-كما قال- كي لا تكتشفنا الشرطة... فهمت كيف يشعر المجرمون الفارون ..
فيما بعد عرفنا أن معظم ما ادعاه كان كذباً.. لفرض السيطرة وبث الرعب في نفوسنا فحسب..
فقد أمرنا مثلاً أن ننبطح فوق بعضنا ملتزمين الصمت التام حين يطلق نفير الشاحنة مشيراً لاقترابنا من حاجز تفتيش ... لكن النساء اللواتي كن يجلسن بقربه أخبرننا فيما بعد أنه لم يصادف في الرحلة حاجزاً واحداً، وأنه في المرات الخمسة التي أطلق فيها النفير... كان يتسلى بإرهابنا ويضحك بأعلى صوته...
رغم الأهوال التي تلت.. مازلت أشعر بالاختناق كلما تذكرت ذلك اليوم الرهيب.. كان الرمل يتطاير والغبار يعشش في كل المسام.. ولو غفا أحدنا لوهلة.. غطته طبقة بيضاء من الرمال.. البعض أغمي عليه... ولكن لا أحد منا كان قادراً على المساعدة، كان ما بقي من طاقة لدينا لا يكاد يكفي للبقاء على قيد الوعي.
الشاحنة تتوقف كل ثلاث ساعات لقضاء الحاجات، يرمون لنا بعدها بماء ساخن للشرب... في منتصف الطريق تقريبا سمحوا لنا بالوقوف.. رحمة بعد تيبس 15 ساعة جلوس.. تسارع الرجال للوقوف فداس البعض بعضاً ... وتعرض البعض وأنا منهم لرضوض قاسية تحت دوس الأقدام الكبيرة..
على مدار رحلتنا القاسية.. لم يتوقف المهربون عن الابتزاز.. فقد كانوا يتوقفون أحيانا ليعرضوا علينا- مقابل مبلغ معين-الانتقال الى سيارات مكيفة كانت ترافقنا وفيها بعض العائلات التي دفعت ثمناً أعلى.. 
فالعذاب درجات.. بحسب ما تحمله من المال ...
البعض قبل بالعرض.. فالوضع كان لا يحتمل..إلى درجة الصراخ ألماً أحياناً..
وحينها، تتوقف الشاحنة ويترجل السائق النذل ليطلق من بندقيته بضعة طلقات عالياً في الهواء.. متبوعة بسيل شتائم قذرة.. فيجمدنا الرعب في أماكننا دون حراك.. كان يبدو مجرماً حقيقياً وهو يردد بغضب وبقناعة تامة: "لا مشكلة في موت بعضكم".. 
حوالي الثانية ظهراً وصلنا سبراطة القريبة من الساحل.. ناقلات سوداء صغيرة كانت بانتظارنا يقودها افارقة حالكي السمرة... 
نزلنا أخيراً من الشاحنة المشؤومة.. كنا نسمع قرقعة عظامنا ومفاصلنا التي يبست على مدار 27 ساعة ماضية..أحسست لوهلة أن جسدي لن يطيعني.. لكنني تحاملت على نفسي ونزلت.
عندما ركبنا الحافلات".. 
صمت قليلاً ...كمن يحاول ضبط تأثره... 
"حصل أمر آخر آلمني كثيراً.... فقد تذكر نديم.. الشاب الحمصي الرقيق.. تذكر بعد أن نزل من الشاحنة أنه نسي جواز سفره في محفظته فوقها... وكان جواب الليبي على طلبه بتناولها قبل أن يصعد إلى الحافلة.. لكمة عنيفة فجرت الدم من أنف نديم.. قبل أن يجره من ياقته إلى الحافلة صارخاً باحتقار: "أيها الأخرق... هل تحاول أن تثير جنوني؟"...
لكان دافع عن نفسه يومها مغامراً بحياته لو كان يعرف أنها ستنتهي بعد أيام في جوف البحر...
***********
بعد أكثر من نصف ساعة وصلنا فيللا صغيرة...قيد الإكساء.. قيل أنها ملك ضابط ليبي تسارعنا إلى مغسلة لازالة التراب الذي التصق بوجوهنا وأيدينا.. وعصر قمصاننا من عرق الساعات الطويلة...
جابر سائق سيارة الأجرة الليبي أتانا بوجبات مقابل ثمنها ابتلعناها رغم رداءتها... وقام بصفقات مربحة في بيع السجائر للبعض بأسعار خرافية..
عصابات كبيرة.. مئات الأشخاص.. صاروا يرتزقون من استغلال تهريب السوريين.. هذا أفرز ولا بد تغيرات في قيم وتركيبة ومستقبل أهل مناطق طريق التهريب..
كثيرون والمكان صغير.. صاحب البيت بدا مستاء من العدد الكبير.. ربما لذلك لم نمكث لديه إلا بضع ساعات نقلونا بعدها مساء بالحافلات الى فيللا مهرب آخر.. بالأحرى إلى حوش الفيلل.. لأن المهرب كان يسكن المنزل.. بينما سمح للسوريون والقطط أن يعيشوا -أو أن يموتوا لافرق- في الحوش الصغير حول البيت.. 
كان المشهد رهيباً... حوالي 200 شخص بين رجال ونساء واطفال نائمين على الارض حول المنزل.. انفطرت قلوبنا عندما علمنا أنهم على هذا الحال منذ 16 يوماً، ينتظرون أن يهدأ البحر الذي يتمرد عادة عشرين يوما قبل أن يهدأ أياماً ثلاث..
كان الحوش صغيراً ومتسخاً وأسوأ مافيه الحمام الذي اضطررنا للوقوف أمامه في طوابير.. تفوح رائحة العفن من المراتب القليلة التي سنخلفهم فوقها... بعد أن يغادروا الليلة -كما وعدوهم- ليبحروا من مكان قرب سبراطة... بينما نبحر نحن لاحقاً من ميناء زوارة..
المعاناة تذيب الحواجز.. لذا تعرفنا إلى بعضهم في الحال.. بل وشعرنا بالود نحوهم... 
كأبي ماهر.. ذكره الله بالخير.. وهو رجل طيب.. فقد كل ما يملك في الحرب... كان لديه متجراً للنحاسيات قرب حلب القديمة.. دمرته القذائف.. وكذلك المنزل الجميل الذي قضى عمره في زخرفة كل شبر فيه.. والأسوأ أن كوم حجارته التي تساقطت.. خبأت بينها كل ماضيه وجثتي أمه وابنته... 
لكل إنسان هنا قصة محزنة.. رغم أن أحداً منهم لم يكن في جانب طرف من أطراف الحرب... لكنهم حين وجدوا فجأة أنه لم يعد لديهم ما يخسرونه.. تبع-ما بقي منهم-غريزة البقاء... فهاجروا إلى المجهول.. 
"كان لدي في المشغل أربعة من أمهر معلمي حفر النحاس في حلب.. وكنا نعيش راضين.. ما كنت أحسبني وعائلتي سنتشرد يوماً ونذل بهذه الطريقة البشعة"...
استدار ليخفي دموعه كاشفاً تحت قميصه المتسخ جروحاً فوق ظهره..
يا ويلي.. كان الليبيون يضربونهم بالسوط أحياناً..
********
الأخبار تناقلت أن أهل ميناء زوارة الذي سنغادر منه مستفزين، وقد عينوا لجاناً شعبية مهمتها وقف عمليات تهريب البشر عبر شاطئهم الذي ترسو فوقه كل يوم عشرات من جثث الغرقى.. إضافة الى انتشار فيروس ايبولا في المدينة الصغيرة بسبب مرور المهاجرين الأفارقة عبرها.
الساعة الثانية صباحاً كان أبو ملهم ومجموعته.. يستعدون للرحيل..
وكان المهربون في آخر محاولة متاحة للابتزاز، يعرضون على المغادرين شراء ستر النجاة بالمال.. 
نودعهم كأننا عرفناهم دهراً..
راقبناهم يركبون الحافلات تباعاً ... طوبى لهم... سيسافرون الأن ومن سبراطة... 
استمتنا في محاولة اقناع المهرب أن يسمح لنا بالسفر معهم.. لكن الامر كان محسوماً فالمال كما قال قد استلمه مهربو زوارة .. 
أحزننا الأمر ولكن.. سبحان الله.. عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم..
فمن بين أكثر من 200 شخص أبحروا تلك الليلة ...لم ينج إلا 16 فقط، ونقل الإعلام صور الجثث العشرين التي وجدت بعد غرق المركب على بعد 70 كيلو متر من الساحل الليبي بينما لايزال 170 آخرون في عداد المفقودين.. ولم نعرف مصير أبي ماهر وزوجته وولديه..
انقطع الاتصال الهاتفي مجدداً.. ربما نفد رصيد هاتفه الجوال من المال.. أو ربما نفدت قدرته النفسية على اجترار الألم لهذا اليوم... بالتأكيد سيتصل بي قبل الأربعاء القادم... لأكتب لكم إن شاء الله ختام هذه الرحلة..
  • تعليقات الموقع
  • تعليقات الفيس بوك
عذراً خاصية التعليقات مغلقة حالياً
Item Reviewed: رحم الله... العرب Rating: 5 Reviewed By: وكالة السبئي للانباء-سـام
عذراً خاصية التعليقات مغلقة حالياً