728x90 AdSpace

23 سبتمبر 2014

هيلا يا واسع... بقلم د. ريم عبد الغني

 بقلم د. ريم عبد الغني
هيلا يا واسع...
الملايين أبكاها فيلم "تيتانيك" وأنا منهم.. أحزنهم مشهد روز الجميلة متمسكة بذلك الطوف الصغير بينما يتجمد حبيبها ببطء.... قبل أن تفلت أصابعه من أصابعها لينتهي في قاع المحيط....

تلك الملايين الرقيقة ذاتها كيف لا تكترث لخبر غرق مئات السوريين ,العرب والأفارقة، كل شهر في وسائل الاعلام؟..
مع أن المقارنة مرفوضة... فأولادنا الذين غرقوا لم يرحلوا طوعاً في رحلة ترفيهية لتدشين سفينة ترف عملاقة.. بل قضوا فراراً من حرب... بحثاً عن حد أدنى من الحياة.. في مراكب مهترئة نخرها جشع سماسرة الموت... مأساة أشنع بكثير من غرق دي كابريو الوهمي.. فقدان عائلات بأكملها رجالاً ونساء وأطفالاً.. بينهم أطباء وحرفيون و,,,
الأمر لا يهز مشاعر عالم تشغله قبعة ملكة بريطانيا، والعملية الجراحية التي أُجريت لـ" سبيني" كلب اللاعب الفرنسي ريبري.. وتحدي دلو الثلج الذي هدر كمية من الماء تكفي لإرواء عطش كل الأفارقة..
وفي حين يدير العالم ظهره لابتلاع البحر آلاف المهاجرين غير الشرعيين.. فوجاً خلف آخر... تتداعى-منذ شهر كامل- أمريكا من المحيط إلى المحيط.. لمقتل المراهق الأمريكي الأسود مايكل براون -الذي اشتُبه بحيازته سلاحا نارياً-على يد شرطي أبيض في "فيرغسون" بولاية ميزوري، مقتل شخص واحد.. أشعل أعمال عنف وأطلق مظاهرات حاشدة في عشرات المدن الأمريكية!!..
ترحموا معي، من فضلكم، على من قال:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر
******
شغلتني قصة هجرة مجد ورفاقه... صارت هاجسي.. انتظرتُ أياماً قبل أن يأتي أخيراً اتصال مجد الهاتفي.. ليتابع سرد بقية تفاصيل رحلة الموت إلى سواحل إيطاليا عبر الصحراء الليبية الموحشة:
كنا قد وصلنا في القصة إلى تلك الليلة الوحيدة التي قضيناها في حوش بيت الضابط الليبي في سبراطة..
في اليوم التالي جاء عمر الذي كان زعيم المهربين في غدامس وأشرف على ركوبنا الباصات التي بدأت تنقلنا على دفعات باتجاه ميناء زوارة، توقف السائق مراراً للاستدلال على الطريق... واضح أنه ليس من أهالي المنطقة، كان الارتباك بادياً عليه.. فهو يعرف ما سيحل به لو انكشف أمره أمام أهل زوارة..
"يكاد المريب أن يقول خذوني"، اضطرابه لفت الأنظار، فاعترضتنا سيارة عالية للشرطة أول الأمر.. ثم مجموعة ملتحون من لجان أهالي زوارة، أجبنا في المرتين -كما لقننا عمر- بأننا سوريون نازحون في طرابلس منطقة الخزانات جئنا عن طريق المطار... خيل إلي أنني أسمع دقات قلبي.. بل ودقات قلوب الرفاق.. في صمت الخوف خلال اجتياز الطريق المهجور إلا من بعض العربات المحروقة.. ومجموعات المسلحين هنا وهناك.
ربما مرت نصف ساعة قبل أن نتوقف أمام مجموعة مخازن مغلقة، فتحوا أبوابها الحديدية ثم أغلقوها بسرعة بعد أن دفعونا داخلها... بانتظار الدفعات التالية...
بعد اعتياد عيوننا على الظلام.. تبينّا اتساع المكان المقسوم إلى أربعة أقسام.. ولأنه كان قذراً للغاية فقد تبرعت مجموعة منا بتنظيف ركن لجلوس النساء والأطفال...
وصلت المجموعة التي تلتنا في حالة سيئة، فقد اعترض ملثمون طريقهم.. وأجبروهم على خلع ملابسهم لتفتيشها أيضاً وسُلبوا كل ماكان لديهم من مال وجوالات... كان أبو منير المسكين يبكي كالأطفال.. فقد سلبوه المبلغ الذي كان كل ما يملك ونجح بإخفائه في جيب داخلي طوال الطريق.. الحمد الله أنه كان قد دفع مقدماً إيجار المركب له ولعائلته في غدامس...
بعد اكتمال عددنا.. غادرنا المستودع على دفعات صغيرة في سيارتين عاليتين منزوعتي المقاعد وزجاجهما معتم... أُمرنا بالمغادرة دون حقائبنا التي قالوا أنهم سيحضرونها لاحقاً..
وصلنا بعد قليل إلى بيت قرب البحر محاط بحديقة صغيرة، طابق أرضي مكوّن من غرفة استقبال واسعة وغرفتي نوم ومطبخ وحمام، النساء تجمعن في الغرفة الوحيدة المكيفة، لايوجد أثاث في المنزل.. إلا تلفزيون... لأول مرة منذ تسعة أيام شعرنا مجدداً أننا جزء من العالم المدني، في المنزل الخاوي يمكنك النوم على الأرض حيث تشاء، فوق عشرات المراتب على الأرض تحمل آثار مئات عبروا من هنا...
تتابع وصول الدفعات.. قبيل منتصف الليل اكتظ المكان بالسوريين، وصل بعضهم عن طريق تونس أيضاً..
أكثر من مئة أفريقي افترشوا أرض حديقة المنزل.. سيستقلون معنا ذات المركب.. ولأنهم دفعوا أقل، سيجلسون في قاع المركب قرب المحركات، ممنوع أن يصعدوا إلى السطح إلى أن يصل المركب إلى الشاطئ الإيطالي.... ما أبشع المال.. تُشترى به حتى الحياة والموت..
أعتقد أنه خلال رحلتنا شهدنا عملياً كل الوسائل القذرة المعروفة.. فالمهربون استخدموا معظمها حتى الفتنة، فقد نصحونا بحمل أداة حادة لمواجهة الأفارقة الذين قد يتمردون فجأة ويصعدون إلى السطح ليرمونا في البحر، وقد عرفنا فيما بعد أنهم بالمقابل حذروا الأفارقة من أننا قد نرميهم بالبحر في أي لحظة..
كذلك الكذب والسرقة.. فقد أقلقنا انتظار حقائبنا، لا سيما وأن البعض وضع فيها المال وجوازات السفر، لكن الحقائب لم تأت أبداً..
حوالي الواحدة صباحاً، بدأ المهربون بنقل الأفارقة تدريجياً ليتخذوا أماكنهم في قعر القارب، ثم تبعناهم سيراً على الأقدام مسافة 1 كيلو متر تقريباً إلى شاطئ البحر، حيث امتطينا قاربين مطاطيين كبيرين، نقلونا إلى قاربنا الراسي على مبعدة من الشاطئ...
صعدنا إلى القارب لنكتشف أننا خُدعنا.. ستر النجاة لم تكن موجودة فوقه كما أكدوا لنا... والأهم أن القارب لم يكن كما ادعوا معدنياً ضخماً من نوع جرافة، بل كان قارباً خشبياً مهترئاً...
ولكن.. لم يكن من مجال للتراجع.. جلسنا على سطح القارب كل ملتصق بالآخر..
كانت الأوامر تتالى لتوزيعنا بما يحافظ على توازن المركب.. مسبوقة بالشتائم ومتبوعة أحياناً بالضرب، ولأننا كنا على قاب قوسين من الحلم، لم يكن صعباً -بعد كل مامررنا به- ابتلاع هذا أيضاً...
الآن نحن جاهزون... فلنقلع...
ملأنا الحماس والأمل... هيلا يا واسع...
تصاعدت الأصوات في الدعاء والابتهال للوصول بالسلامة... توكلنا على الله..
بعد ساعة واحدة من مسيره، تعطل القارب فجأة.. فشل أحد الركاب ممن لديهم بعض خبرة في إصلاح المحرك... وبدأت المياه تتسرب إلى قعر القارب، فتصاعد صراخ الأفارقة في الأسفل يريدون الصعود إلى السطح.. حيث لا يوجد مكان فارغ لفأرة، انقلب الدعاء إلى استغاثات ونحيب، وسادت الفوضى في سفينة دون ربان..
فقد تبين أن رباننا التونسي المزعوم ليس بحاراً.. كان قد تلقى بعض التدريب لدى المهربين فقط.. وقد طلبوا منا قبل المغادرة التستر عليه عند الوصول، ليتمكن من الهجرة معنا... كان هذا وحده كافياً لإشاعة الرعب بيننا...
التوتر حول كل منا الى قنبلة موقوتة... فاليأس يخرج أسوأ ما في البشر... تذكرت ما سمعته عن مقتل بعض المهاجرين خلال عراك أثناء تحطم المركب... وعن مركب أبحر من تونس قتل فيه 100 مهاجر، نصفهم غرقاً ونصفهم.. طعناَ...
تلمست السكين الصغيرة في جيبي..
أنا لم أؤذ نملة يوماً... هل سأستطيع طعن شخص يحاول البقاء على قيد الحياة؟
ألا يكفي أننا تحولنا إلى مشردين.. هل ستجبرنا هذه الحرب اللعينة أن نصبح قتلة أيضاً؟...
آآآآه يا وطن...
لكن.. إذا كان الخيار بين الحياة أو الموت.. كيف سأتصرف حينها؟..."اللهم لا تدخلنا في التجربة" ..
استطاع التونسي أخيراً التواصل مع قارب مصري، أشرنا له بالمفرقعات النارية، الغريب أن حرس السواحل الليبي تجاهلها... ترى، كم تمتد قائمة المتورطين في تجارة تهريب البشرإ؟..
القارب المصري ربط قاربنا بالحبال وأخذ يجرنا، كان قاربنا يتمايل يميناً ويساراً كالمخمور، كنا نخشى في أي لحظة أن ينقلب بنا... ساد القلق والوجوم وجوه الركاب.. لا صوت إلا لطمات الأمواج المعاندة... تصفع خشب القارب العجوز..
مر النهار وجاء المساء ثانية والقارب المصري ما زال يسحبنا خلفه، قفز أحد رجاله الأربعة عدة مرات إلى قاربنا حاملاً ماءً نظيفاً، اشترط أن يسقي به النساء والأطفال والكهول فقط...
حاول الرجل طمأنتنا، أتانا بمضخة لسحب الماء الذي كان يتجمع بسرعة في قعر القارب، فتزداد صعوبة ضبط جيران الطابق السفلي... ومنعهم من الخروج للسطح..
الجو كان بارداً ليلاً.. والشمس حارقة نهاراً.. وقت طويل لم نر فيه يابسة....
أتأملهم شركاء المحنة.. رجالاً نساء وحوامل وكهولاً وسيدات عجائز وأطفالاً من مختلف الأعمار... جف الملح على الشفاه.. تغلب الغثيان على الجوع، بل استفرغ البعض حتى الماء..
كان ارتفاع الموج يعلو تدريجياً.. فيستشري القلق.. آهات ألم.. بكاء أطفال.. أدعية... نحيب.. صراخ أحياناً.. ومركب صغير يترنح تحت رحمة بحر جبار..
حين دخلنا المياه الاقليمية الإيطالية بعد اثنتين وعشرين ساعة، اتصلنا عبر هاتف ثريا (الأقمار الصناعية) بخفر السواحل الإيطالية، طلب أحد الركاب المغاربة الإستغاثة باللغة الايطالية بعد أن أخفقنا في التواصل معهم بالعربية أو الانكليزية.. ووعدوا بإرسال المساعدة..
القارب المصري غادر بسرعة.. خوفاً من انكشاف أمرهم، الحد الأدنى من العقاب في هذه الحالة هو السجن إضافة إلى مصادرة قاربهم...
ازداد الانتظار رعباً.. بابتعاد القارب المصري.. واقتراب غروب الشمس.. وازدياد ارتفاع الأمواج التي كانت تعبث بالقارب كالريشة...فنعلو ثم نهبط بعنف.. وتصفعنا الموجة بذيلها..
الثواني استطالت دهوراً.. أين ما وعد به الإيطاليون؟ هل سيأتون أم سيتجاهلونا؟....
الماء يتسرب في القعر بشكل غزير... والأفارقة يقرعون الخشب ويصيحون لأجل الخروج ...
الناس بدؤوا يفقدون السيطرة على أعصابهم... تشهّدت كما تشهد الكثيرون...
لاحت في الأفق ناقلة نفط ضخمة.. بدأنا بالتلويح والصراخ للفت النظر.. ومع أن المسافة كانت كافية ليرونا... لكن الناقلة تجاهلتنا مبتعدة..
عاد الأمل في صوت طائرات هليكوبتر... حلّقت فوق رؤوسنا لوهلة.. قبل أن تبتعد ثانية.. بينما الموج يزداد شراسة... كأنه يسخر منا..
الرؤوس تتلفت بيأس بحثاً في الآفاق عن السفن الإيطالية التي وعدنا بها.... عبثاً..
مرت بضعة دهور، كل ثانية تمر كانت تقربنا من الموت..
أخيراً... بدت البوارج في الأفق... لم أشعر بحياتي بهذا الفرح... بكى أغلبنا فرحاً بوصول الفرج.. لكنها للأسف بقيت بعيدة... ربما كانوا يخافون أننا نحمل فيروسات معدية كمرض إيبولا.. وربما لأسباب فنية.... لست أدري.. أرسلوا لنا قارباً مطاطياً فوقه ستر إنقاذ لنرتديها... وهذه كانت الضربة القاتلة..
كنا قد اتفقنا أن نتعامل بهدوء وحكمة مع الموقف.. وأن الأولوية في ارتداء ستر النجاة للنساء والأطفال، لكن الروح غالية... لذلك بدأ بعض الرجال وخاصة أصحاب العائلات بتخاطف ستر الإنقاذ مما أثار جنون البعض... فاندفع كثيرون إلى ذلك الجانب من المركب فأختل توازنه و...انقلب..
كنت في وسط القارب.. وجدتني أقفز بكل ما أوتيت من عزم إلى الماء.. وكان آخر ما شاهدته، صورة لا زالت تقض مضجعي، نساء يرتطمن بخشب القارب وعيون خائفة لأطفال يبكون...
لا حول ولا قوة إلا بالله..
أسبح بين جثث طافية وأمواج هائجة... من يجيد السباحة يحاول الابتعاد عن القارب، ومن لايجيدها يتمسك بمن طاله... فيغرقان معاً، لسوء الحظ تمسك بي رجل أفريقي وكدنا نغرق سوية لولا أنني نجحت في التملص منه.. بعد أن لوى كتفي الذي كان يحاول التمسك به ليطفو...
لم يكن لدي خيار.. فمن المعروف أن من يغرق يتخبط دون وعي، إلى حد جذب المخلص غالباً نحو القاع معه... لذا ينصح عادة أن يبدأ الإنقاذ بضرب الغريق على رأسه لإفقاده الوعي ثم سحبه ورأسه خارج المياه كي لا يغرقك... لكن الوضع حينها لم يكن يسمح لأحد إلا بإنقاذ نفسه لو استطاع إلى ذلك سبيلا..
أسبح وأسبح دون وعي.. الموج والريح ... صراخ وعويل ... كنت خائفاً إلى حد عدم التفكير.. لم أستطع التوقف لالتقاط أنفاسي... فليس لدي سترة نجاة.. والأسوأ.. هبوط الظلام..
على بعد أمتار.. لمحت امرأة قرب طفل في سترة نجاة.. كان يبكي ويقلبه الموج، فينغمر رأسه في الماء ثم يطفو... يا الله.. الأم فارقت الحياة... جذبت الطفل محاولاً إبقاء رأسه فوق الماء... وتابعت السباحة.. لا أعرف إن كنت سأنجو أنا نفسي.. ولكنني أخذته معي.. ننجو معاً أو نموت سوية..
القوارب المطاطية تبحث عن أحياء.. الموج العالي يسحبنا أكثر وأكثر بعيداً.. أحاول بما بقي لدي من طاقة أن أصرخ... صوتي تبدده الريح... ولا وسيلة للفت أنظارهم في هذا الظلام الدامس..
سبحان الله... أنقذته فأنقذني الله.. فالتماع سترة الإنقاذ التي كان يلبسها الطفل هي ما لفت نظر طائرات الهليكوبتر التي كانت تحوم بكشافاتها حول منطقة القارب الغارق... من لم يكن لديه سترة -ولو كان يجيد السباحة- فقد هلك في غياهب الموج والظلام....
توجه إلينا القارب المطاطي أخيراً وانتشلنا...
فوق سطح البارجة الضخمة...كنت في حالة ذهول.... أتابع وجوه من عادوا من قبضة الموت... شعرت فجأة بألم شديد في كتفي الأيسر... كان الخوف والبرد قد أخرساه حتى اللحظة... مشاعر متضاربة شتى... بين فرح النجاة وحزن فقد الآخرين.. وأسى ورجاء.. لمن يصارع الموت في مكان قريب... يا رب أنقذهم...
صرخت فرحاً عندما التقيت -بين جموع الملتفين بأغطية الإنقاذ- رشا وأخوها معاذ الذي انقذها وعدنان أيضاً.. أين خالد وكنان؟.. تأملنا أنهم بين مئات الناجين فوق سطح البارجة...
الواحدة ليلاً... تلاشى الأمل في إيجاد مزيد من المفقودين.. أبحروا بنا عائدين إلى جزيرة صقلية الإيطالية.. فقط في تلك اللحظة انفجرت بالبكاء.. تخيلت شعور من كان حياً في قبضة الأمواج.. وهو يرى ابتعاد أضواء سفن الانقاذ.. لتتركه للموت..
كنا نرتعش برداً.. لكننا منعنا من دخول الغرف.. طاقم البارجة الذي ارتدى أفراده ستراً بيضاء تقيه الأمراض المعدية، انتحى بالأطفال جانباً.. وقدم لنا الماء والرز..
بعد إبحار يومين كاملين.. رست بنا البارجة أخيراً في صقلية.. انتظرنا ساعات فوقها حتى وصول أجهزة الإعلام لإلتقاط الصور كما طلب إلينا... رغم أننا كنا في حال يرثى لها ونتلهف للوقوف على يابسة....
في مأوى الناجين.. الخيمة الكبيرة البيضاء داخل الميناء، مُنحنا ثياباً مستخدمة وبعض الصابون ولكننا لم نفعل بها شيئاً... لم نكن نستوعب بعد أننا أصبحنا في أمان... لاسيما من لم يعثر على ذويه بعد، ككنان وخالد اللذين لم يظهرا...
لبث الجميع في حالة ترقب للبارجة الثانية التي سيصل فوقها بقية الناجين... همهمات قراءة أدعية... وأنين بكاء...
بوصول البارجة تعالى الصياح وانهمرت الدموع!! دموع فرح من وجد أقرباءه,,, ودموع حزن من لم يجدهم... وللأسف كنا من الفريق الثاني.... البعض أغمي عليه... كأبي سامر الذي فقد كل أولاده.. والبعض أخذ يضرب نفسه.. كان معنا شاب فقد أخواته البنات... وآخر فقد زوجته... الكثيرون فقدوا أولادهم... حالات يُدمى لها القلب...
لأيام انتظرنا.. لعلّ قوارب أخرى تحمل المزيد من الناجين... لكن... للأسف لم يأت أحد... وسائل الإعلام تناقلت صور وحكايات الكارثة... لكنها لم ترو إلا القليل.. كقصة الطفلة ميرا التي فقدت كل عائلتها... والرجل الدمشقي الذي فقد زوجته وبناته الثلاث... والطفل عمر كرمو الذي بحث بين الجثث عن الشاب الذي أنقذه قبل أن يبتلعه الموج... قصص تقشعر لها الأبدان.. روت شجاعة الشباب السوريين، الذين تحول بعضهم إلى فرقة انقاذ... وغرق معظمهم... رحمة الله عليهم.. ما كان أشجعهم..
بعد أن أخذت الشرطة الإيطالية الصور والمعلومات، تم نقلنا إلى مخيم للمبيت... وبعد أيام غادر كل منا حيث شاء... غادرت ورشا ومعاذ إلى روما بالباص (يعتلي الباص عبّارة في البحر بين جزيرة صقلية وشبه الجزيرة الإيطالية) ثم إلى ميلانو بالقطار.. ثم إلى الدانمارك بسيارة أجرة.. وهناك استقر عدنان.. ثم بالقطار إلى السويد حيث نسكن الآن في تجمعات خاصة باللاجئين، نتعلم اللغة.. ونستعد لبدء حياة جديدة.. بإنتظار أن نُمنح في الشهور القادمة إقامة وعملاً.. وحين تنتهي الحرب... بالتأكيد سنعود..
*****
غمرني الإمتنان تجاه الإيطاليين... ينقذون المهاجرين... سوريين وعرب وأفارقة.... يمنحونهم مأوى وطعاماً.. ثم يدعونهم لينطلقوا بحرية...حيث شاؤوا في أوروبا.. يواجهون حظهم وقدرهم دون تدخل... دون سؤالهم حتى عن جوازات السفر...
في موقفهم هذا .... ألم يكونوا أرحم بأولادنا من معظم الدول العربية ؟.
وبعد... هل مازلنا نجرؤ أن نردد: "الحق كله عالطليان"؟...
الأربعاء 24-9-2014
  • تعليقات الموقع
  • تعليقات الفيس بوك
عذراً خاصية التعليقات مغلقة حالياً
Item Reviewed: هيلا يا واسع... بقلم د. ريم عبد الغني Rating: 5 Reviewed By: وكالة السبئي للانباء-سـام
عذراً خاصية التعليقات مغلقة حالياً