728x90 AdSpace

26 أغسطس 2014

الجنبية... زينة الرجال..من كتاب"في ظلال بلقيس" ريم عبد الغني

من كتاب"في ظلال بلقيس"
ريم عبد الغني
الجنبية... زينة الرجال
محمّد وحسن -كمعظم شباب صنعاء- دخلوا حياة التجارة باكراً، تدرّبوا على أيدي تجّار السوق القديم الأكبر سناً، ليكتسبوا تلك العيون الخبيرة التي تميّز مباشرة دقّة العمل اليدويّ وقيم الأحجار وأصول النقوش.
الدكّان -كمثيلاتها في سوق صنعاء القديم- غرفة ضيّقة تغصّ بما فيها، الجدران مغطّاة تماماً بالحلي الفضيّة والخناجر والمشغولات التي رُصّت بشكل احتفاليّ مُبهر، تغريك بدخول المكان ثم تسيطر عليك ما أنْ تقبل.
أراقبهما يحاوران اثنين من السوّاح.. الأصوات تعلو وتنخفض في جدال حول الأسعار، يصرّ محمّد وحسن بشدة على أنهما خاسران، قبل أن تأخذ الأسعار بالهبوط إلى أنْ تصل إلى سعر يرضيان به " لأجل خاطرك" مع أنّه -كما يؤكّدان- أدنى من سعر الكلفة.
أشفق على الزبون الذي توحي ابتسامته الراضية باعتقاده أنه نجح في عقد صفقة رابحة.. من يستطيع أن يتغلّب على تاجر صنعانيّ أو دمشقيّ؟ ألم يخرج اليهود -الذين لا يقارعهم أحد في أمور المال- من المدينتين فقراء؟... ثم تسمع الدمشقيين والصنعانيين يحذّرونك "انتبه... اليهودي يهودي ولو أعطاك زناره"!!.
لكي تزداد الصورة وضوحاً هنا، ألخصّها بقصّة الريفي الذي دخل فوق حماره مدينة دمشق، ولم يشتر أحد شيئاً من بضاعته، وحين أدركه الجوع، طرق باب أحد المنازل ليقايض حمله بشيء من الطعام له ولحماره، فأعطوه بطّيخة (حبحب) فقط، وردّاً على استهجان صاحبنا قالوا: "ماذا تريد أكثر من ذلك؟ تستطيع أن تأكل البطّيخ وتُطعم حمارك القشور بل وتتسلى أيضاً بقرض البذور"...
أجل.. حقيقةً أنّ أهل دمشق يجيدون "استثمار" كلّ شيء.. وأذكر أن أحد ظرفاء اليمنيين تناول الغداء لدينا في دمشق ذات يوم، وكنتُ قد أعددتُ وجبة شهيّة من "محشي الكوسا"، وهو طبق مكوّن من ثمار الكوسا التي تُفرَغ من محتواها ليُحشى قلبها الفارغ باللحم والرز... توقّف الضيف طويلاً أمام طبق شرحتُ له أنّه مصنوع من قلب الكوسا (الذي تمّ إفراغه) إذ أننا لا نرميه وإنّما نطهوه مع الثوم و الكزبرة... ابتسم أبو أحمد بمكر قبل أن يستدير إلى الحاضرين ليقول بهدوء: "أرأيتم أيّها السادة؟... لا أحد يستطيع أن ينافس أهل دمشق أبداً... يستفيدون من كلّ شيء... أو بحسب تعبيرهم "يحلبون النملة"... ومنذ ذلك اليوم كلّما التقيت به في أيّ مكان، داعبني بكلماته مبتسماً مُصطنعاً الدهشة: "حتّى قلب الكوسا؟... لا حول ولا قوّة إلا بالله"!.
أتأمّل الواجهة الزجاجيّة، مئات الأحجار الكريمة, وشبه الكريمة من كلّ مكان في اليمن.. "العقيق".. "المرجان".. "الأوبّالين".. و "اليسر" و"الكرب" الأصفر والأحمر و"الكهرمان" وغيرها.
توقّفتُ أمام أحجار الكهرمان (أو الكهرب) الصفراء.. تجذبني دائماً بلونها العسلي، أخرجتُ من حقيبتي قطعة منها كنتُ قد اشتريتها من حضرموت قبل أيّام، أريتها لمحمّد فأطرى عليها مؤكّداً أنّ أهم الكهرمان اليمنيّ في حضرموت، ومنه تُصنع أحلى المسابح التي تحتفظ دوماً برائحتها الذكيّة وتضيء ليلاً، وتُعلّق قطعه الصغيرة في المجالس اليمنيّة والمحلّات للتبرّك بها، ثم ينخفض صوت محمّد كمن يُفشي سرّاً خطيراً: يُقال إنّ "الكهرب" يستعمل أيضاً في صناعة بعض الأسلحة المتطوّرة"!.
لكنّ للعقيق اليمانيّ حصّته الأكبر بين المعروضات، فهو من أشهر الأحجار شبه الكريمة في اليمن، وقد ذاع صيته في أرجاء العالم؛ لنقائه وصفائه وألوانه النادرة وميزاته في الصلابة ومقاومة الحموض، لذلك فضّله الفرس والروم على العقيق الهنديّ, واقتناه الملوك والأمراء، وهناك من يُرجع سبب شهرته أيضاً إلى حديث يُروى عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم "تختّموا بالعقيق اليماني فإنّه أوّل منْ آمن لله بالوحدانيّة وشهد لمحمّد بالرسالة".
وبعد طول اعتقادي أن ألوان العقيق تتدرّج بين الأحمر والبني، ها أنا ذا أكتشف اليوم أنّ هناك عقيقاً أبيض "حجر القمر" وعقيقاً سماوياً وعقيقاً أبيض مخططاً (الجزع اليماني) وهو طبقات من لونين ويغلب عليه الأبيض والبني، ومنه العقيق "المشجّر" بأشكال ورسوم طبيعية، وهو أرقى أنواع العقيق المستخدم في الزينة ويوجد خاصّة في ذمار، وهناك العقيق "المزهّر" وهو ذو لونين أو أكثر منه الأبيض والأسود والأزرق.
ومن العقيق اليماني نوع يُسمّى "الزبرجد" الذي "يُبهج القلب"(ويحمل أربعة ألوان الأزرق والأبيض والأخضر والرمادي) وهناك حجر "الدمّ"، حجر "الشمس"، حجر "السجين"، وحجر "الفيروز"، إلى جانب حجر "أضافير الشيطان"، وحجر "عين الهر" و"عين النمر" الذي يلتمع كأعين النمر عند تعرّضه للضوء، ولكلّ حجر قصة ولكلّ لون دلالته و فضله في المرويّات الشعبية...
لم يكن محمّد يحتاج إلى كثير من الفطنة ليدرك ولعي بالعقيق، لذلك استطرد بحماس: "لون يجلب الرزق ولون يقي من العين, ولون يمنح صاحبه الحظّ والجاه.. ولون يشحذ العقل ويعطي الفصاحة، وآخر يهب لابسه قوّة النصر على الأعداء, ويملأ القلب شجاعة مقترنة بالفطنة والحذق، ولون يُضفي على حامله الصحّة وتيسير الأمور، لكن أشهر العقيق الأحمر: الرمّاني والكبدي، وهما أجود أنواع العقيق وأغلاها, ويُقال: إنّهما يجلبان البركة "، "وأكثر العقيق"-يوضح محمّد- "يأتي من حضرموت وصنعاء وذمار ولحج حيث ظل إنتاجه طويلاً حكراً على أسر معينة".
ثم دنا منّي وفتح كفّه عن قطعة عقيق مُبهرة ارتسم داخلها شكل طائر... كأنّ رسّاماً محترفاً استطاع الرسم داخل الحجر.. ليقول مفسّراً: " تتكون هذه الصور داخل العقيق -كما يقولون- نتيجة البرق أو عند هطول الأمطار، ويُقال: إنّ بعض أنواع العقيق يحتفظ بآخر صورة أمامه قبل تصلّبه".. سبحان الله.
تقاطعه فوزيّة التي نادراً ما تحتفظ بمعلومة لنفسها، مخبرة إيّاه بالتفصيل عمّا حصل لنا مع جاره في الدكان السابق, وعن رغبتي بشراء جنبيّة أحملها معي هديّة إلى أصدقاء، فيقودنا محمّد إلى ركن "الجنابي" أو الخناجر، التي يضعها اليمنيّ على جنبه لتصبح جزءاً منه يرافقه طوال حياته، فهي بعض الزيّ التقليديّ اليمنيّ منذ القديم, ورمز براعة أهل اليمن تاريخيّاً في صناعة الحديد والصلب وخاصّة الأسلحة والسيوف.
يشير محمّد إلى مقبض من العقيق البنيّ، موضّحاً أن قيمة الخنجر اليمني أساساً -والذي قد يصل سعره إلى أرقام فلكيّة بحسب مواصفاته- تكمن في الرأس, أي المقبض الذي يتنوّع عادة بين الفضّة والخشب والعاج وحوافر الجمال وقرون الوعول والزراف, إلى أن يصل أغلاه وهو المقبض المصنوع من العقيق أو قرن وحيد القرن (الكركدن أو الخرتيت) والذي يصفو باستمرار دعكه بالزيت ليصبح مع تقادم الزمن صافياً كالبلّور، فيستحقّ عند ذلك لقب "الصيفاني" الذي يبلغ ثمنه أحياناً ملايين الريالات.
مررتُ بأصابعي على تفاصيل الخنجر الجميل المطعّم بالذهب والفضّة، كمعظم الخناجر اليمنية، على المقبض دائرتان معدنيّتان (من الحديد أو الذهب أو الفضّة) هما "الزهرتين"، ويفصل المبسم -وهو شريط زخرفيّ فضيّ- بين المقبض والنصل، وعلى كلّ من وجهي النصل الحديديّ المصقول حُفر خطّ مجوّف يسمح بتسلل الهواء داخل الجرح لضمان تسمّمه، أما الغمد أو العسيب فعادة ما يُصنع من الخشب الخفيف مثل خشب "البرقوق" أو "العنبرود" أو من خشب الصنوبر والطنب، وهو مغلّف بالجلد الملتف بحبال رفيعة وأنيقة، ويُثبّت الغمد على حزام من الجلد الخالص (وهو أنواع مثل المتوكلي والكبسي والطيري والمرهى والمركزي)، يُزيّن بتركيبات فضية أو مطليّة بالذهب على شكل هلال أو محفظة أو أشكال أخرى... والتطريز الفاخر للأحزمة-ككل الأعمال الدقيقة التي تُشغل بأنامل رشيقةـ يتم عادة يدويّاً من قبل النساء.
أجذب الكرسيّ الصغير لأجلس, إذ أصبح الأمر متعة حقيقية، محمّد يسهب في الشرح بشغف واضح عن أنواع الجنبيّات وتقاليدها: الجنبيّة أنواع، فبحسب شكلها مثلاً: هناك الجنبيّة "القديمي" والجنبيّة "القصبي" و"الحسيني" و"القبلي".
وللجنبية قيمة اجتماعيّة، فهي"زينة الرجال"... لا يخلعونها حتّى في الصلاة... يضعون خلفها عادة (أو في العمامة) المسواك وسكّيناً صغيراً وملقطاً... وارتداؤها محكوم بأعراف قبليّة, تضبط استخدامها, ليس من اليسير تجاوزها، والحفاظ عليها مرتبط بالكرامة والرجولة، يُقال مثلاً: إنّ مسافراً تعرّض لقطّاع طرق سلبوه ما معه وما عليه من ملابس قطعة قطعة، وحين اقتربوا من عسيبه صرخ قائلاً "إلاّ الخفنق لو سار رأسي" والخفنق هو العسيب... وذهبت مثلاً.
ولأنّ الخنجر –بالنسبة لليمني الذي اعتاد أن يتقلّده على حزام فوق خصره- هو لباس تقليدي أكثر منه سلاح، وتحكمه الأعراف، لذلك قلّما تُسمع حوادث استُخدمت فيها الخناجر، إلّا في بعض المناطق التي يقولون فيها "إنّ الجنبيّة إذا خرجتْ من غمدها لا يجوز أن تعود دون دم"، تسري قشعريرة في أطرافي, وأنا أسمع هذه الكلمات.. لا أحبّ أن أختبر ذلك بنفسي أبداً.
أسأل فوزيّة, وقد جلستْ قربي فوق كرسيّ خشبيّ منخفض, نحتسي الشاي الساخن الذي قدّمه لنا حسن في أكواب زجاجيّة صغيرة ملوّنة: "منذ متى عرف اليمنيّون الجنبيّة؟"
الإجابة تأتيني من حسن الذي يجذب كرسيّاً لينضم إلينا وقد خلا المحل في هذا الوقت من غيرنا من الزبائن: "منذ غابر الأزمان.. يبدو أنها وُلدت قبل الميلاد بعدّة مئات من السنين, بحسب ما وُجد في القبور، ارتداها السبئيون أيّام الدولة الحميَرية، وتمثال "معدي كرب" يُظهره وهو يتمنطق بجنبيّته، ومقابض الخناجر اليمنيّة القديمة زُينت بالنقود الحميريّة.
والجنبيّة الجيّدة، يا سيّدتي، تُتوارث، لا يبيعها اليمنيّون حتّى ولو بلغتْ بهم الحاجة والجوع مبلغاً، يتفاخرون بها, فتُنسب صُنعاً ومُلكاً، يقولون جنبيّة صنعها فلان وملكها فلان.. وهناك عائلات معدودة متخصصة في صنع الخناجر الجيّدة (خاصّة في حضرموت) اعتادت أن تصنع جنبية واحدة أو اثنتين في السنة حرصاً على دقّة العمل وحفاظاً على سمعة الجنبيّة، ولبعض الجنبيّات القديمة المشهورة قيمتها التاريخيّة كجنبيّة الإمام شرف الدين أحد أئمة اليمن في القرن السادس الهجري, والموجودة اليوم بحوزة عائلة الشيخ عبد الله الأحمر رحمه الله".
وإذا كان المكتوب يُقرأ من عنوانه فالخبراء يستطيعون معرفة الكثير عن اليمنيّ من تفاصيل جنبيّته التي تتناسب عادة مع مكانة الرجل وثرائه، يُشير نقش حزام الجنبيّة مثلاً, واتجاه توضّعها على الخصر إلى طبقة حاملها الاجتماعيّة، ففي حين يضعها القبيلي متعامدة مع الخصر باتجاه الأعلى، يضعها القضاة والسادة مائلة لليمين أو اليسار".
الطريف أنّ بعض اليمنيين يربطون بين المرأة الجميلة والجنبيّة في الشعر والنثر، فيشبهون أنفها ودقّة خصرها وإقبالها في مشيتها بتفاصيل الجنبيّة، بل وحتّى افترار مبسمها عن أسنانها يذكّرهم ببريق النصلة...
فقط العشق اليماني يمكنه أنْ يجمع هذين الاثنين.. منذ القديم.. منذ أنْ قال فارسهم عنترة بن شدّاد العبسي: ولقد ذكرتُك والرماح نواهلٌ
منّي وبيض الهند تقطر من دمي
فوددتُ تقبيل السيوف لأنّها
لمعتْ كبارق ثغرك المتبسِمِِ
أمّا بالنسبة لي، فالجنبيّة مرتبطة في ذهني بالتماعها تحت الأضواء في أيدي راقصي رقصة "البَرع" الصنعانيّة المشهورة، فنّ الفرح الشعبيّ، يؤدّيها الرجال -خاصّة في الأعراس- بإيقاع سريع على وقع الطبول (الطاسات) الذي يتغيّر بين منطقة وأُخرى، وبديع مشهد الراقصين بزيّهم التقليدي يلوّحون بالجنبيّة مع الإيقاع القوي.. وقد تواكبها البنادق على الأكتاف.. أجل.. بالنسبة لي هذا هو المشهد الوحيد الذي يحلو لي أن أرى الجنبيّة فيه.
  • تعليقات الموقع
  • تعليقات الفيس بوك
عذراً خاصية التعليقات مغلقة حالياً
Item Reviewed: الجنبية... زينة الرجال..من كتاب"في ظلال بلقيس" ريم عبد الغني Rating: 5 Reviewed By: وكالة السبئي للانباء-سـام
عذراً خاصية التعليقات مغلقة حالياً